ظلت "الصومال" وحدها لفترة طويلة تفرض على الفكر العربي، بل وفي العالم الثالث مفهوم "الدولة الفاشلة" لا ينافسها إلا القليل من الدول التي تراوحت حالتها بين الفشل والانهيار مثل حالة لبنان أو إلى حالة أخرى نتيجة الانفصال أو التقسيم فتدخل هنا حلبة المناقشة حالات مثل السودان أو العراق. وبينما النقاش يدور حول هذه الحالات في مؤتمر جمع حشداً من أساتذة العلوم السياسية والفكر الحديث في إطار مركز دراسات الوحدة العربية، وإذ بحالة تونس وثورتها ضد "الدولة" الاستبدادية تقفز أمام الجميع، طارحة أسئلة مستقبل هذه الحالات جميعاً. أول ما تبادر للذهن هو التساؤل عن معنى تجسد الأمثلة جميعاً في الفترة الأخيرة في المنطقة العربية تحديداً، فلئن شهدت مناطق أخرى في أزمة مختلفة حالات مماثلة إلا أنها قد عولجت على نحو أو آخر وبقيت الحالات المزمنة في النهاية في إطار ما عرف بالدولة الإسلامية في باكستان أو أفغانستان، وينتمي تراثها بالضرورة إلى تراث الفكر العربي الإسلامي، مما استوجب التفكير والتساؤل حول "الموروث التراثي" أو ما يعرفه المغاربة "بالمدونة التراثية العربية". قال بعضهم إنه تراث فقير بالفعل في صياغته حول الدولة، وقال آخرون إن طبيعة المراحل تختلف، وإن سيطر على معظمها فكر الدولة العضود والعصبية على نحو ما خلده ابن خلدون، ومن هنا سيطر مفهوم البيعة على الشورى، وقال آخرون إن قوة تاريخ الدولة وهي ذات أساس ديني، جعل مفهوم الشورى، الغائم في التاريخ الإسلامي يظل غائماً في الدولة الحديثة. ولذلك ظل مثال الدولة القائمة على "العقد الاجتماعي"، أو ما يعرف الآن بالتفاوض الاجتماعي، ليشكل أساس حالة ديمقراطية لدولة قوية، لم نعرفها بعد على المستوى العربي خاصة. لكن كل ذلك ظل موضع نقاش أمام التعرف أكثر على الحالة "التركية"، وهي ذات تراث إسلامي، أو الحالة المغربية، وهي التي تتفهم أكثر تراث سوسيولوجيا "الفيدرالية" أو تفاوضات التنوع الثقافي والعرقي، ومن ثم بقي "المخزن" عنواناً لإدارة الدولة، بدرجاتها من القوة أو الاستبداد أو التشاورية! انتقلت الندوة المهمة في هذه الظروف إلى بحث آثار التقسيم الاستعماري في المنطقة، وكيف انتقل بها ذلك من موروث دولة أو دول الوحدة إلى الدولة القطرية، وهنا تتفاعل مع موروث الحداثة الوافد أو موروث الدولة الوطنية سواء في حالتها الوحدوية أو القطرية. هنا لم تعد الحداثة هي فقط موروث التقسيم وآليات الحكم الاستعماري، ولكنها أيضاً، موروث أحدث للمواثيق الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، وعمليات الاستقطاب الدولي التي رحبت بمختلف أنماط الدول بأشكال استقلالها المتعددة. وهنا برزت الدولة الوطنية بجوار دولة الاستعمار الحديث، حتى وصلت للجميع سياسات العولمة الاقتصادية والدولية. كاد الإنجاز الاقتصادي، سواء بالثروات الريعية، أو بدعم المساعدات الأجنبية أن يحمي مفهوم الدولة القطرية، في تحد واضح للدولة الوطنية المؤهلة لقيادة عمليات التوحيد، سواء بالوطن العربي أو أفريقيا، أو بأقصى شرق آسيا. لكن تطورات الأحداث أدت لفشل ظاهر هنا وهنالك على المستويين القومي والقطري، فأزمة سياسات الانفتاح وصندوق النقد الدولي، وتصاعد وهبوط الدخول الريعية مع أزمات عالمية متكررة، أسقطت مقولة الإنجاز الاقتصادي للدولة القطرية وفرضت نماذج الدولة الفاشلة في معظم الحالات. كما أن فشل إدارة الدولة الوطنية لعلاقتها بالقوى المجتمعية، وبقائها وفق مبررات مختلفة "مستقلة" عن المجتمع أو "نخبه" في أحسن حالاتها، قد كشف عوارها أيضاً. وطوال المناقشة، ونحن في ظلال تطورات الموقف المقلق في لبنان، أو الموقف المؤسف، من حول النتائج المنتظرة في السودان، أو الموقف المحزن الجاري في الصومال، ظلت أنباء "الثورة" التونسية تبعث برسائل أخرى. كانت حالة الصومال والسودان إذن باقية لتفهم كثيراً من عناصر الإنكار السابقة" وإن بقيت "منهارة"! فهي في تقديري ليست فاشلة، حيث ورثت حركة "مهدوية" مبكرة ضمن مطلب شعبي توحيدي في خمسة أقاليم قسمها الاستعمار حسب مصالح مسبقة، ولذا ظل مطلب التوحد قائماً عند كل لحظة للاستقلال في هذا القسم أو ذاك. وسواء في الفترة الليبرالية عقب الاستقلال أو الفترة العسكرية التي أدارها ضباط شبان وحدويون كان مشروع الدولة الوطنية الموحدة هدفاً للجميع، وحتى التمرد الذي وقع ضد العسكر وعرض البلاد للتشظي كما رأينا، بدا بتمرد أيضاً على الاستعمار أو الاحتلال الأجنبي مما عرض القوات الأميركية والأفريقية لأشكال من المقاومة يقاسي منها الجميع حتى الآن.. وحتى الآن، لم يعلن أي فريق من فصائل الصراع اتجاهه للتشظي رسمياً، حتى "صوماليلاند" شمالاً أو "بونتلاند" شرقاً، أو من رضوا مؤقتاً بالوجود في الاتحاد الأثيوبي، الجميع يطالب بالدولة الوطنية الصومالية الموحدة عقب الخلاص من عناصر "الفشل" القائمة. ونعرف أن القوى الأجنبية تتعدد مصالحها في هذا التقسيم القائم، سوا أثيوبيا التي تجر الاتحاد الأفريقي وأوغندا وبوروندي إلى العنف المشين في البلاد، أو الدول الغربية الكبرى التي تجر فصائل هزيلة إلى ما يبدو استعراضاً للقوة في المحيط الهندي عبر ما عرف بالقرصنة، وهو في الواقع دفاع- أيضاً عن الثروة السمكية أو شواطئ البترول والذهب لو صدقت أنباء القراصنة. أما السودان، فلا يبدو بعد الإجراء الهادي للاستفتاء الذي يبدو مؤدياً للانفصال، بل وما يبدو من تراضي حكام الشمال والجنوب على النتائج المتوقعة لهذا الاستفتاء، لا يبدو أن الإقليمين في طريقهما لنموذج "الدولة الفاشلة" وإنْ كنا للأسف لا نرى في الشمال رغبة حميمة في تحقيق استقرار حقيقي لمشروع دولة جديدة، فإننا نرى في الجنوب عناصر تتطلع للاستقرار وبناء هذه "الدولة الجديدة". فالشمال يضرب في أكثر من اتجاه، يعوق المشاركة الديمقراطية ويتعطل نتيجة ذلك حل شامل لمشاكل دارفور والشرق وأبيي،.. الخ، بل وتقلق القوى السياسية بل والدولية على مصيرها إزاء ميل المركز إلى التشدد في أكثر من قضية بما يجعل السلطة، لا الدولة قابلة للفشل، ذاك عكس المتوقع في الجنوب من واقع التوافقات المحلية والإقليمية التي ترشحها لدولة جديدة. نعرف من تاريخ الاستقلال السياسي للدول أنها قد تواجه بعض المشكلات لكنها في النهاية تتعامل بكل أريحيات الدولة الجديدة. والأمل أن يستقر في الإقليمين مفهوم صحيح "للدولة" وليس مجرد السلطة، لأن الدول الحديثة التي سبق أن قامت على احتكار أدوات العنف، سواء على يد الوطنيين أو العولميين؛ لم تعد محتملة البقاء وبعد نماذج العراق وتونس وحتى بعد تأهل الشعب السوداني نفسه لنموذج جديد لدولة قطرية نجدها تعالج القضايا الاقتصادية بثروة فانية في النهاية ولكنها ستواجه حالاً قضايا العروبة والأفريقية، وقضايا حوض النيل، والجوار والمياه، ومن ثم فإنها تعرض نفسها بأيديها لحالة الدولة الفاشلة أو المنهارة.