منذ وقعت انتفاضة الشعب التونسي التي أطاحت ببن علي شُغل كثير من السياسيين والمحللين في البلدان العربية بإمكانية انتشار "الأعراض التونسية" عربيّاً، ولوحظ أن "السياسيين" اتفقوا على نحو شبه مطلق على أن الأحداث لا يمكن أن تنتقل إلى بلدانهم لأن المسؤولين فيها "ساهرون" على خدمة شعوبهم، ولأن الظروف التي كانت سائدة إبان حكم بن علي لا صلة لها من قريب أو بعيد بظروف بلدانهم. وهكذا خلصوا إلى استحالة الإصابة بـ"العدوى" التونسية، ولا بأس من قدر يعتد به من السخرية من مخالفيهم في الرأي. أما المحللون غير المرتبطين على نحو مباشر أو غير مباشر بدوائر رسمية فقد اعتبروا أن انتقال الأعراض التونسية إلى البلدان العربية التي تعاني من قهر نظمها الحاكمة هو من قبيل البديهيات. غير أن المسألة تحتاج إلى معالجة علمية مسؤولة قد تصطدم نتائجها بتمنيات الحالمين بتغيير مشروع، غير أنه يبقى لها فضل محاولة التوجيه إلى الطريق السليم لهذا التغيير. تستند فكرة تعاقب الأحداث بالنمط نفسه من حالة إلى حالات أخرى على ما يعرف بنظرية "الدومينو" الشهيرة، فانهيار سهم في البورصة قد يفضي في تعاقب سريع إلى انخفاض مماثل في قيم أسهم أخرى حتى تغلق البورصة أبوابها، وإفلاس مصرف قد تنتقل عدواه إلى مصرف ثانٍ فثالث، وهكذا حتى نصبح إزاء أزمة مالية حقيقية. وتستند هذه النظرية إلى فكرة "التوافق" أو "الاعتماد المتبادل"، فأن تكون وحدة ما جزءاً من نظام للتفاعلات يجعلها تتأثر بالضرورة بما يجري في أي وحدة أخرى من وحدات النظام، خاصة إذا كان ما يجري هذا بحجم ما حدث مؤخراً في تونس، غير أن من الأهمية بمكان أن نعي حقيقة أن طبيعة هذا التأثر ودرجته وحدوده تحتاج درساً وتحليلاً حقيقيين. وقد يكون أقرب الأمثلة تاريخيّاً في هذا الصدد هو ما يتعلق بنبوءة كارل ماركس في القرن التاسع عشر بشأن انهيار النظم الرأسمالية "دفعة واحدة" بدءًا بأكثرها تقدماً، كون التناقضات قد بلغت فيه ذروة نضجها، لكن ما حدث هو أن الانهيار بدأ بروسيا القيصرية -أقل هذه النظم تقدماً- ولم ينتشر خارجها، وهنا قدم لينين قائد الثورة الروسية تفسيره من خلال فكرة "التفاوت في مراحل النمو"، بما يعني أن ظروف الثورة قد تنضج في بلد دون غيره من بلدان النظام الرأسمالي، كما أن ثمة احتمالاً في أن يكون نجاح الثورة الاشتراكية في روسيا القيصرية قد حوّل نبوءة ماركس -التي ربما كانت صحيحة في الأصل- إلى نبوءة "هادمة لذاتها" self-defeating، ويشير هذا إلى سعي القوة الفاعلة في سياق معين لضبط مسار التطور لصالحها. ولنفترض مثلاً أن حكام الدول الرأسمالية آنذاك كانوا يستخفون بنبوءة ماركس، ثم إذا بهم يجدونها تتجسد بالفعل في دولة بثقل روسيا القيصرية. ومن الطبيعي أن يصيبهم القلق والخوف من جراء ذلك، ويعملوا على تفادي المصير نفسه بتحسين أجور العمال وظروف معيشتهم على النحو الذي يخفف من حدة التناقضات التي اعتبرها ماركس فتيل انفجار الثورة، وهو ما يُرجَح أنه قد حدث بالفعل، بدليل أن نظاماً رأسماليّاً واحداً في أوروبا لم يلق مصير النظام الرأسمالي في روسيا القيصرية، وحتى النظم التي تبنت الاشتراكية في شرق أوروبا عقب الحرب العالمية الثانية نعلم أن ذلك قد تم في ظل وجود القوات السوفييتية على أراضيها، ولذلك ما إن تخلخلت القبضة السوفييتية في ثمانينيات القرن الماضي حتى انهارت تلك النظم في تعاقب سريع يشبه ما تنبأ به ماركس وإن على نحو "مقلوب"، إذ كان يتحدث عن تعاقب الانتقال إلى الاشتراكية وليس الخلاص منها. وليس ما يحدث في عديد من البلدان العربية الآن ببعيد عن التحليل السابق، فقد انخرطت نظم هذه البلدان في سباق محموم من أجل إثبات اهتمامها برفع معيشة المواطنين، وتخفيف المعاناة عنهم، ووقف أي إجراءات تتعارض مع ما سبق كانت بسبيلها إلى أن توضع موضع التنفيذ، وزيادة رواتبهم... إلخ، وقد يثمر هذا كله أو لا يثمر وفقاً لعوامل نعود إليها لاحقاً. ولننتقل الآن إلى واقعنا العربي كي نواصل مناقشة الأفكار السابقة في سياق أكثر ملاءمة، وهنا نشير إلى ثورة يوليو 1952 التي قادت مشروعاً حقيقيّاً للتغيير في الوطن العربي لقي تجاوباً هائلاً من الجماهير والنخب العربية، ولا ننسى أن ذلك المشروع ارتبط بوزن مصر القيادي شبه الاحتكاري في الوطن العربي في ذلك الوقت، فماذا كانت النتيجة العملية؟ لاشك أولاً في القيمة التاريخية الهائلة للانتصار في معارك التحرر الوطني في الجزائر واليمن وغيرهما، ولنلاحظ أن التحرر من الاستعمار قضية إجماع وطني سهل حشد الشعوب حولها. وكذلك لا ريب ثانيّاً في أن نقلة نوعية قد حدثت في النظام العربي ككل على صعد مختلفة، غير أننا إذا حاولنا قياس أثر ثورة يوليو على الأنظمة العربية المحافظة تحديداً سنجد أنه يكاد ينحصر في العراق عقب ثورة 1958، وفي اليمن من خلال ثورة 1962 التي دعمتها القيادة المصرية بتدخل عسكري كثيف، وحتى العراق نعلم أن نظامه الثوري الجديد سرعان ما دخل في خلافات طاحنة مع قيادة ثورة يوليو. وتفككت الوحدة التي أقيمت مع سوريا في 1958 بعد حوالي ثلاث سنوات ونصف، ولا يعني هذا كله إلا أحد أمرين أو كلاهما: الأمر الأول أن العوامل الداخلية تبقى هي الفيصل في حدوث التغيير مهما كانت ضراوة موجته، والثاني أن ثمة احتمالاً أن تكون النظم المحافظة التي صمدت أمام إعصار التغيير اتخذت بعض الخطوات في الداخل من شأنها أن تحول دون وقوع انفجار شعبي يودي بها من جراء ذلك الإعصار. ويعني ما سبق أن الثورة التونسية ستكون لها دون شك تأثيراتها العديدة عربيّاً، ولعل أهم هذه التأثيرات بداية أنها أكدت عروبة النظام بعد أن كان البعض يروج بإصرار لوفاة العروبة، وإن المتأمل لردود أفعال الجماهير العربية والبهجة التي أصابتها بسبب عظمة ما وقع في تونس، والأمل في التغيير نحو الأفضل أسوة بالتجربة التونسية لا يمكن إلا أن يدرك المعنى الحقيقي لعروبة الجماهير، ومن ثم عروبة النظام. غير أنه بعيداً عن هذا يجب أن يكون واضحاً أن الأمور لا تحدث ولن تحدث بطريقة آلية، فليس معنى أن شاباً تونسيّاً أحرق نفسه في لحظة غضب لكرامته ودفاعاً عن قوت يومه فكان وقوداً لثورة شعبية نادرة الحدوث أن الثورات المنتظرة لا تحتاج سوى إلى شخص يحرق نفسه، وإلا أصبحت الشعوب المقهورة أشبه بمجموعة من الببغاوات تصدر أصواتاً لا تفهمها أو تأتي بحركات لا تدري كنهها! ولكن التغيير يأتي عندما تنضج ظروفه الداخلية بما في ذلك ضرورة وجود قوة منظمة تقود إليه أو شعب موحد الإرادة يقف خلفه كما في الحالة التونسية. فعلى الذين انتعشت آمالهم بغد أفضل بعد أحداث تونس أن ينظروا إذن في أنفسهم ليروا إلى أي حد تتوفر لديهم موضوعيّاً مقومات هذه الأحداث، والسبيل إلى استكمال النقص في هذه المقومات، ولنضع نصب أعيننا دائماً ذلك القانون القرآني الذي لا يأتيه الباطل: "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ".