كثُر الحديث هذه الأيام عن تونس، بدأ الناس يشترون ديوان أبي القاسم الشابي ويحاولون التعرف على جغرافية قرطاج ونابل وصفاقس وسوسة وجربة وسيدي بو زيد والقصرين، وهم يحاولون فهم التاريخ السياسي التونسي ومصطلحات مثل: "الاتحاد العام للشغل" و"المنظمات الجهوية" وأسماء الأحزاب التونسية القائمة على الأرض أو التي هربت وتوارت؛ يستحضرون أسماء المناضلين السابقين والزعماء اللاحقين، ومن أفسد ومن أشعل النار احتجاجاً على هذا الفساد. كل هذا مفهوم ومعلوم وتقتضيه عظمة الحدث التونسي ودلالاته وتوابعه وعِبرهُ وكيف بدأ وانتهى، ولكن غير المفهوم هو هذه المعلقات التي تشير بعد كل مقال ومحاضرة تلفزيونية عصماء إلى احتمالية تكرار الحدث التونسي في البلدان العربية الأخرى. وإنني حتى الآن لا أفهم ماذا يعنون بالغمز واللمز وحتى التصريح المستتر منه والمعلن في كل أواخر أحاديثهم المكتوبة أو المسموعة أو المشاهدة؟ هل قلوبهم على زعمائهم العرب ويخافون ألا يحدث لهم ما حدث في تونس؟ أم أنها مجرد نزعة تشفٍّ ليس إلا، ممزوجة بالتوعد والتهديد المبطن.. للآخرين؟ إن كان الأمر الأول، فيلزم التناصح غير طريق عرض الحدث التونسي مراراً وتكراراً بالشكل الذي يعرفه الصغار والعجائز والمتبوع بكلمات وأسئلة مثل: هل يفهمون؟ هل ينصتون؟ أو مثل عرض حكاية الثور الأبيض وسرد قصص ما وقع لحكام رومانيا وتشيلي! وإن كان ما يقصدون هو الأمر الثاني فعليهم أن ينتظروا الحدث التونسي حتى يهدأ وتنقشع غيومه، ليُعرف خيط ثورة الياسمين الأبيض من الأسود، مع اعترافنا بعمق الحدث ودلالاته، وقبل هذا فإننا نسجل ملاحظات مهمة أخرى كبيرة: أليس الهم الإنساني واحداً، والنـزعة لمساندة الحريات لا تنفصل ولا تتجزأ؟ الجواب الأكيد هو نعم.. لكن ما يحدث من كُتابنا ومثقفينا وعلمائنا العرب والمسلمين ينفي إثبات هذا، فها هي لغتهم التي أشرنا إليها في سياق الحديث عن تونس وما حصل فيها تدل على ما نقول، وقارنوا أقوالهم بما قالوه وكتبوه عن هموم أمتهم الأخرى. عندما سقط صدام حسين -تمثالاً وحقيقةً- لم نسمع حينها إلا همسات عن الطغيان وكيف باد؟ الطغيان والجبروت متشابه في العراق كما في تونس، مع أفضلية تونسية نسبية، حيث يروح السياح ويغدون وتقام مشاريع نصف فاسدة، قياساً للستار الحديدي في العراق منذ أواسط الستينيات وحتى عام 2003. هل كان طعم الطغيان والديكتاتورية والفساد العراقي حُلواً ومثيله التونسي مرّاً؟ قد يقول قائل إن الديكتاتور في بغداد سقط عبر الدبابات الأميركية بينما كان أخوه في تونس يهرب من خلال الحناجر التونسية وقبضاتها، وإن (مرَّرنا) هذا التعليل الـمُخل -في نظري- فأين كانت نزعة مساندة المستضعفين في العراق، ودبابات وسمتيات الجبار تسحقهم في مارس وأبريل عام 1991، وبمشاركة من قوات التحالف التي لم تكن تبعد حينها عما يحدث في البصرة والكوفة إلا أمتاراً قليلة؟ لماذا سكت الفرحون لثورة الياسمين عن قمع ثورة المستضعفين في جنوب العراق حينها، بل إنهم صمتوا كذلك عن مقتل آلاف الكُرد في حلبجة، لم يتذكر أحدٌ منهم كل ذلك وهم يبكون أيام الطغيان الغابر في أبريل عام 2003؟! إنه التناقض والرغبة في إسقاط ما حدث في تونس على أوضاع أوطانهم ليس إلا. وثمة مثال آخر، ألم يكن العرب وأنصاف العرب من الزنج والذين يعيشون على الأرض العربية في دارفور، ألم يكن كل هؤلاء يستحقون المساعدة وشجب أعمال الطغيان والقتل ضدهم مثلما فعلنا في الحالة التونسية؟ الأغرب أن المحاكم الدولية الجنائية التي أصدرت أحكاماً على المتسببين في مقتل آلاف الناس في دارفور، شجبنا أعمالها وقراراتها وقرر البعض منا وخاصةً من يحمل القلم أن يقف إلى جانب المتهمين ضد الضحايا هناك! أكانت الأرواح الدارفورية رخيصة والأرواح التونسية أغلى وأعلى قدراً؟! مثال ثالث: عندما قرر الجنوبيون الانفصال عن السودان هرباً من سنوات الشمال السوداني التي لا أريد تسميتها، لماذا لم نردد معهم وإن بلغتهم التي تعايشت مع تاريخنا سنوات طوالاً، أبياتاً للشابي عن إرادة الشعب في الحياة والرغبة في كسر القيود؟ هل كان حلم (البوعزيزي) ثميناً، وحلم أسماء الجنوبيين السودانيين الذين لا أعرف منهم اسماً بالتحديد ولا أتذكرهم، رخيصاً ولا يستحق إشادة السادة المثقفين الذين لا يكلون ولا يملون هذه الأيام من إعادة الدرس التونسي لطلابهم القراء والمشاهدين العرب؟ مثال رابع: عندما ازدحمت شوارع بيروت وكل لبنان مرددةً مع الآلاف من الحناجر صيحات ثورة الأرز ضد ما يقوم به (الشقيق) في لبنان، لماذا لم ينتصر مثقفونا لهذه الثورة البيضاء الضعيفة؟ بل إن كثيراً من المثقفين جزم بأن الاستقلال والحرية والسيادة في الأوطان كما طالب بها نصف لبنان على الأقل حينها ورغماً عن المهيمن الجار (والشقيق).. مؤامرة غربية ليس إلا؟! ماذا يمكن أن نستخلص من كل ما سبق وقيل في هذا المقال عن الحدث التونسي ومعانيه عند بعض مثقفينا؟ الجواب تلخصه تلك اللقطة التي عرضتها إحدى القنوات الفضائية العربية وهي تجول في بلدة القصرين بتونس عندما فاجأت الكاميرا الحشود وهي تندد بأحد المثقفين التونسيين العائدين من فرنسا بعد أن زال خوفه من جبروت الرئيس التونسي، كان الناس يقولون أمام مراسل القناة: لا نريد هذا الشخص العائد من فنادق باريس ليخطف جهد وتضحيات التونسيين في القصرين ويترشح على حسابهم للرئاسة، فهو أبعد من أن يكون أحد أسباب طيران (ابن علي) في كل أرجاء الوطن العربي باحثاً عن ملجأ! إن حال بعض مثقفينا وقنوات فضائنا العربية يُشابه حال الشيوعيين أثناء الحروب الباردة وعند انهيار منظومتهم في أوائل تسعينيات القرن الماضي، كان البلاشقة والأمميون مع كل حركة للشعوب لإسقاط حكامها المحسوبين على الغرب. لكن ماذا حدث عندما تقاطرت الجماهير إلى ساحة الكرملين مناديةً بسقوط رأس النظام الشيوعي، أو عندما اندفعت الجموع لكسر أول طوبة من الجدار الفاصل بين الحرية والديكتاتورية في برلين، ما إن جاء هذا الفيضان الإنساني المطالب بالخبز والحرية الكاملة، حتى اختفى تلاميذ كارل ماركس ولينين وراحوا ينعتون الحشود المطالبة بالحقوق الإنسانية بالعمالة والخيانة. عندما كتب أبو القاسم الشابي قصائده فقد كان يقصد طغاة العالم لا بعضهم، ووفقاً لما يختاره من يكتب عن تونس اليوم، ومن صمت عن جبابرة الأمس.. والغد.