في غمرة الحماس الجارف للأحداث التونسية الأخيرة، عاد الكثير من الكتاب العرب للتبشير بالعودة لعصر "الثورة العربية" الموعودة.كادت العبارة تختفي من القاموس الفكري والسياسي العربي بعد أن كانت رائجة أشد الرواج منذ منتصف القرن الماضي إلى ثمانينياته. كانت تلك هي مرحلة الانقلابات والانتفاضات العسكرية التي أطلقت عليها تلك التسمية للتعبير عن حلم التغيير الجذري، ومرحلة ثورات التحرر الوطني التي قاومت الاستعمار وانتصرت عليه (أبرزها الثورة الجزائرية). لم تكن "الثورات العربية" إذن داخلة في منطق الثورات الحديثة الكبرى التي نشأت في الغرب. ويمكن أن نقسم هذه الثورات إلى نموذجين كبيرين: نموذج الثورة الفرنسية 1789، الذي تكرر تقريباً في روسيا 1917، وإلى حد ما في الصين 1911، ونموذج الثورة الأميركية 1787. في الحالة الأولى، أخذت الثورة شكل القطيعة الجذرية بالطموح لبناء مجتمع جديد وإنشاء إنسان جديد، والقضاء على كل مقومات "الشرعية" القائمة، من منطلق القيم المطلقة كالحرية والعدالة والإنسانية. وفي الحالة الثانية، أخذت الثورة شكل إصلاح سياسي جذري تركز في المؤسسات وآليات تسيير حقل الحكم وديناميكية المجتمع المدني، دون فرض منظور قيمي أو أيديولوجي للتغيير الاجتماعي البنيوي. أفضت الحالة الأولى إلى سنوات طويلة من العنف والفتنة الأهلية والصراع الاجتماعي. انهارت الدولة بمؤسساتها، وحلت التنظيمات الشعبية الفوضوية محلها، قبل أن تهيمن على السلطة الأحكام الشعبوية الاستبدالية، فلم تستعد فرنسا ديمقراطيتها إلا بعد الحقبة النابوليونية العاصفة، في حين هيمنت التوتاليتارية الشيوعية في روسيا والصين. كان "روبسبير" الزعيم الثوري الفرنسي الدموي يعرف الثورة بأنها "حرب الحرية ضد أعدائها"، ويعرف أعداءها بأنهم "كل من يريدون القضاء على الحرية بالقوة أو بالحيلة"، فنصب المشانق وقطع الرؤوس باسم "العدالة الأزلية المطلقة". وكان ماركس يقول "إن العنف هو القابلة التي يولد على يدها المجتمع الجديد"، رافضاً مؤسسات وقوانين الدولة الليبرالية، التي رأى أنها مجرد أداة في يد الطبقات المهيمنة. تشكل الرصيد الفكري للثورات الغربية الحديثة من حركية الأنوار، التي اتسمت في السياق الفرنسي بتلازم مقولتي الحرية وشكل التحول الاجتماعي (أطروحة روسو)، في حين اتسمت في السياق الأميركي بمقولة الحرية المنظمة داخل نسق مؤسسي تعددي (أطروحة جون لوك). وليست الأطروحتان سوى صياغتين مختلفتين للإشكال المعقد الذي يلازم التجربة الديمقراطية من حيث كونها تقوم على مبدأ الإرادة الحرة المطلقة في حين تتجسد ضرورة في قوالب مؤسسية يطبعها التفاوت وعلاقات السلطة. ومن هنا اعتبرت "حنة أرنت" إن ثمة تناقضاً مأساوياً حتمياً بين مقتضيات تسيير المسألة الاجتماعية والحرية السياسية الحقيقية، يفضي بالثوريين إلى إهمال أهمية تأسيس مؤسسات سياسية فاعلة وناجعة. فالحالة الديمقراطية ليست بذاتها ثورية، بل هي فقيرة رمزياً ووجودياً في مقابل الغنى الرمزي للثورة وما تختزنه من وعود جذرية، بيد أنها الحالة الوحيدة الضامنة للسلم الأهلي والقادرة على إخراج الحرية من تحديدها السلبي بإعطائها مضامين موضوعية. تتميز الديمقراطية بكونها لا تتأسس على قواعد يقينية، ومن هنا قابليتها لمختلف المشاريع المجتمعية وتصورات الخير الجماعي المشترك، على عكس الأنظمة الثورية التي تدعي القدرة على تجسيد الفضيلة والقيم. في المنظور الديمقراطي، لا يمكن للحاكم أن يتماهى مع الجسم الجماعي الكلي (الشعب)، بل السلطة من هذا المنظور تدخل في باب "العقلانية البيروقراطية الإدارية غير المتعينة" بحسب لغة عالم الاجتماع "ماكس فيبر". في الثورات، يتوهم الزعيم القدرة على تجسيد "إرادة الشعب"، دون الحاجة إلى وسائط أو مؤسسات، وكأنه استوعب في شخصه جوهر المجتمع وهويته، في حين أن الشعب لا يوجد في شكل "إنسان أعلى " أو "ضمير تاريخي" كما كان يقول "ميشال عفلق"، بل هو جسم متنوع متمايز المكونات والمصالح والأهداف، ولذا تعين تنظيم تعدديته واختلافيته في قوالب إجرائية تعكس لا محالة الموازين والصراعات الاجتماعية. تعيش تونس حالياً سباقاً محموماً بين خيار الثورة السياسية الإصلاحية ومخاطر الثورة الشعبوية والمدمرة. ووفق الخيار الأول، يتعين التوفيق بين القطيعة الجذرية مع العهد الاستبدادي والحفاظ على كيان الدولة ومؤسساتها مع ما يقتضيه هذا الخيار من تسويات غير محببة، في حين يذهب الخيار الثاني إلى أن ثمن تقويض النسق السياسي القائم هو إعادة بناء المؤسسات والنظم وتجديد الواجهات لاستكشاف زخم "البدايات الخصبة". تفيد تجارب التحول الديمقراطي الناجحة خلال الموجتين المتتاليتين في أوروبا (في السبعينيات والتسعينيات) وفي أميركا اللاتينية في العقد الأخير إن ثمن التحول النوعي المنشود كان دوماً المرور بعهود انتقالية وتسويات مرحلية. لا يعني هذا الأمر الاحتفاظ برموز العهد البائد، فمن الواضح أن الرأي العام التونسي رافض بشدة لها. بيد أن التجارب الثورية علمتنا أيضاً أن مسالك الاستبداد قد تأتي من الرموز الثورية في "نقائها وطهوريتها " واعتقادها امتلاك الحقيقة وتجسيد الفضيلة. صحيح أن احتمالات ومخاطر إعادة تشكل النظام البائد واردة، وقد تتأقلم مع قواعد اللعبة التعددية الجديدة، كما هو الحال في بعض بلدان أوروبا الشرقية التي تحولت فيها الأجهزة الأمنية إلى أحزاب حاكمة تتمتع بالشرعية الديمقراطية. كما أن الحالة الثورية قد تستمر في شكل زعامات كارزمية شعبوية على غرار بعض تجارب أميركا اللاتينية. إلا أن الخطر الأكبر الذي يتهدد الثورات هو البقاء في منطق النفي والقطيعة الجذرية. وقد لا تولد شجاعة كسر الاستبداد حكمة البناء المؤسسي الناجح والمستقر.