لا شك أن تونس حاضرة بقوة في ذهني هذه الأيام، وذلك لأن الأحداث التي تستجد هناك درامية وملهمة وأخذت تطغى على النقاشات عبر العالم العربي كله إلى درجة باتت معها المشاهد القادمة من هناك تشد انتباه الناس وتستأثر باهتمامهم: ثورة جماعية سلمية صمدت في وجه القمع والعنف تطيح بديكتاتور وحكومة في مظهر رائع من مظاهر "قوة الشعب". والواقع أننا قلما رأينا من قبل حالات تعبئة جماعية مثل هذه في العالم العربي. نعم كانت ثمة انتفاضات ضد الهيمنة الاستعمارية في شمال إفريقيا قبل أجيال. كما شهدت المنطقة لاحقاً الانتفاضةَ الفلسطينية الأولى، ثم المظاهرات الحاشدة في شوارع لبنان عقب اغتيال الحريري. ولكن هذه الحركات الشعبية كانت قليلة ومتباعدة فيما بينها؛ والأكثر من ذلك، هو أن الآمال التي رافقتها لم تتحقق في معظمها. وبالعودة إلى الوراء لقرن أو نحو ذلك، نجد أن الهيمنة الاستعمارية والتلاعب الإمبريالي (سايكس-بيكو، بلفور.. إلخ.) تركا تأثيراً عميقاً؛ ذلك أن المنطقة كانت محتلة، وتعرضت لجروح وبتر وتحولات عميقة ضدّاً على رغبة سكانها، مازالت ندوبها ظاهرة إلى اليوم. ولذلك، ثمة شعور مستمر إلى اليوم بأن التاريخ العربي إنما يصنعه الآخرون، وبأن الحياة "خارجة عن سيطرتنا". والحال أن تونس تمثل دواءً قويّاً ضد هذا الشعور المحبط. وإذ لا أتفق مع من يعتقدون أن هذه الحركة قابلة للانتقال بشكل تلقائي إلى بلدان أخرى، فما من شك في أنها تمثل لحظة تحول ألهمت الكثير من العرب. غير أن الأشخاص الذين يحبون تشبيهها بسقوط "جدار برلين" مخطئون لأنه لا توجد إمبراطورية سوفييتية أو جيش احتلال هنا. ثم إن كل بلد عربي تطور بشكل مختلف؛ ولديه قوى داخلية خاصة به، وحكومات تتمتع بدرجات متفاوتة من الشرعية. أما التصورات التي تتحدث عن "اشتعال تلقائي" -أو أن "النار التي اشتعلت هنا ستنتشر لتصل إلى هناك"- فلا تعدو كونها أضغاث أحلام ساذجة بعيدة كل البعد عن الواقع السياسي وعن التاريخ في أحسن الأحوال -ولا تختلف كثيراً عن تصورات المحافظين الجدد التي كانت ترى أن سقوط نظام صدام سيؤدي إلى تحول ديمقراطي عبر المنطقة. غير أن الثابت هو أن تونس قد استأثرت بالاهتمام وولَّدت الحماس وأضحت ملهمة بالنسبة لكثير من العرب. وبالطبع هناك اختلاف بين أن يُلهَم المرء بأداء ما وأن يقوم بتكرار ذلك الأداء؛ ولكننا الآن على أي حال نشعر بالذهول إزاء قوة وشجاعة الحشود التونسية وتتزاحم في أذهاننا أسئلة كثيرة؛ ومن ذلك مثلاً: كيف ولماذا انهار النظام بهذه السرعة؟ وما هي القوى الداخلية التي أقنعت بن علي بمغادرة البلاد، وجعلت الحزب ينهار، وأجهزة الأمن المرهوبة والموجودة في كل مكان تفقد السيطرة، والجيش ينسحب؟ بل ينبغي أن نتساءل بشأن التعبئة نفسها، لأن مما لاشك فيه أن هناك قصة مذهلة لم تُروَ بعد حول الكيفية التي انتسجت بها هذه الحركة، ووجدت انضباطها وتنظيمها، ودعمت نفسها. ومن الواضح أن الإعلام الجديد لعب دوراً مهمّاً، ولكن ذلك لوحده لا يكفي لتفسير هذا الجهد. ثم ما هو الدور الذي لعبته الحركة العمالية المنظمة، أو غيرها من قوى المجتمع المدني الأخرى؟ وهل كان ثمة تعاون أو تنافس بين هذه المجموعات؛ وإن كان تنافساً، فأيها كان المحرك أو الدافع إلى الأمام؟ ولأن أمورا كثيرة ما زالت غير واضحة، ينبغي أن نتساءل أيضاً بشأن المآل الذي ستؤول إليه، ومن هم الزعماء الذين سيصعدون إلى الواجهة، وما هو الاتجاه الذي ستسير فيه تونس "الجديدة". وبينما كنتُ أتابع هذه التطورات، فكرتُ في مجموعة من التونسيين الشباب الذين التقيتهم قبل قرابة عقدين من الزمن؛ وكانوا أبناء أخ صديق لي كان يعيش في منطقة واشنطن؛ وكان يعرف أني كنت ذاهباً رفقة وفد أميركي إلى تونس قصد المشاركة في مؤتمر حول الديمقراطية يرعاه الحزب الحاكم في الذكرى الرابعة لوصول بن علي إلى السلطة. وقد شجعني صديقي على تخصيص بعض الوقت للالتقاء بأقاربه، قائلًا إن ذلك سيمنحني منظوراً مختلفاً حول المشاكل الموجودة في تونس ورؤية بديلة للمشهد السياسي للبلاد. كان أقاربه ناشطين سياسيّاً في أحد فروع حزب "النهضة" المحظور. وبعد حديثي معهم لبضع ساعات سُررت لأنني التقيت بهم وتعرفت عليهم حيث كانوا مدافعين شرسين عن آرائهم، وممتلئين بالغضب والمثالية والمطالبة بالتغيير. ولكنهم كانوا أيضاً شباباً؛ وعلى غرار شباب الجامعات في كل مكان، انجذبوا إلى ثقافة التغيير التي كانت سائدة وقتئذ، وكانوا يريدون اقتسام كل إمكانياتها. وقبل ذلك كانوا يريدون أن يعرفوا ما الذي يخبئه لهم المستقبل. صحيح أنهم كانوا يتبنون إيديولوجيا دينية لم تكن تقدمية مثلما لم تكن منفتحة على الثقافة العالمية المتغيرة التي كانوا منجذبين إليها أيضاً، ولكنهم كانوا يرغبون في أن يؤخَذوا على محمل الجد. وعندما عدتُ إلى المؤتمر لاحقاً في ذلك اليوم، تحدثتُ حول أولئك الشباب -وعن الحاجة إلى الانفتاح على مثاليتهم وآمالهم في التغيير وتزويدهم برؤية للمستقبل تلهمهم. ولأن وزير العدل التونسي كان قد تحدث للتو حول التهديد الذي تطرحه هذه المجموعات، خاطبتهم قائلًا: "عيلكم ألا تنبذوهم، بل عليكم أن تشركوهم وتلهموهم لأنهم مستقبلكم"؛ ولكنني صدمت برده القاسي إذ قال لي إنهم إذا تظاهروا في الشوارع، "فإنه سيتم إشراكهم من قبل الشرطة بيد من حديد". اليوم، أفكر في هؤلاء الطلبة الشباب (والواقع أنهم لم يعودوا شباباً) في وقت خرج فيه الجيل الذي خلفهم إلى الشوارع وقوبل بـ"يد من حديد". والشيء الواضح هو أن "اليد الحديدية" ليست طبعاً هي الإشراك المطلوب، كما أنها لم تقف عائقاً أمام أحلام الشباب ومطالبهم. أما الشيء غير الواضح، فهو النتيجة؛ ذلك أنه لا أحد يعرف المآل الذي ستؤول إليه هذه الحركة. فهل سيكون التغيير تقدميّاً ومفتوحاً أمام مشاركة كاملة؟ وهل ستستفيد النساء من هذه الثورة؟ إن الجواب على هذه الأسئلة وغيرها سيأتي في الأشهر المقبلة حين نرى كيف ستتطور هذه الثورة والاتجاه الذي ستسير فيه. أما الآن، فلدينا كل الأسباب لنجد الإلهام ونأمل في الخير لكل التونسيين.