يؤكد مقتل حاكم ولاية البنجاب سلمان تيسير على يد أحد أفراد حرسه الشخصي في باكستان الأسبوع الماضي، المدى الذي وصل إليه خطر العناصر المتطرفة على مجتمعها المدني. يذكر أن الضابط مالك ممتاز حسين قادري- وهو أحد ضباط الحرس الشخصي لحاكم الولاية- هو الذي أطلق النار عليه أمام أحد المقاهي في العاصمة إسلام آباد، ثم اعترف بجريمته قائلاً إن الدافع وراء ارتكابه للجريمة هو غضبه من الانتقادات التي وجهها الحاكم إلى القوانين الباكستانية التي تحرم التجديف والإساءة إلى المقدسات الدينية. وكان الحاكم القتيل معروفاً بكونه من الأصوات الباكستانية المعتدلة، وأنه طالب في وقت ما بإجراء تعديلات على هذه القوانين التي تنص على إعدام كل من تثبت عليه جريمة الإساءة إلى الإسلام. وكانت "آسيا بيبي" وهي مسيحية من مواطني ولاية البنجاب قد حكم عليها بالإعدام أمام إحدى المحاكم بالتهمة نفسها. وعقب إلقاء القبض على الضابط "قادري" قال إن حاكم الولاية انتقد القانون وانتقد أيضاً حكم الإعدام الصادر بموجبه بحق إحدى مواطنات ولايته. وكما نعلم، فقد تنامت موجة التطرف الديني بسرعة كبيرة في باكستان على نحو منتظم ومتسارع في آن. ولكن المثير في حادثة مصرع حاكم الولاية هذه، ليس تمكن أحد المتطرفين دينياً من إخراس صوت معتدل من أصوات المجتمع المدني الباكستاني، الذي يتعرض لضغوط مستمرة من قبل الجماعات المتطرفة المتشددة فحسب، بل ردة الفعل على حادثة القتل، ومساعي البعض لتبرير العنف الإجرامي والدفاع عنه. فبدلاً من أن تصدر إدانات واسعة للجريمة، وتعلو الأصوات المعارضة للأفكار المتطرفة التي أدت لارتكاب الجريمة، سادت مظاهر الاحتفاء بما فعله القاتل، وانهمر عليه الثناء لما فعل. ومن المؤكد أن تثير ردة الفعل هذه استغراباً، خاصة في المجتمع المدني الباكستاني الذي ما انفكت العناصر المتطرفة المتشددة تمارس هيمنتها على خطابه الديني الفقهي. كما يلاحظ أن هذه العناصر المتطرفة التي توفرت لها ملاذات آمنة في باكستان، بدعم من إسلام آباد، قد انقلبت على المجتمع الباكستاني نفسه، وبدأت تفرض أجندتها وتصوراتها للإسلام عليه. وبالنتيجة، فقد أصبحت باكستان تواجه هجمات إرهابية تحدث بمعدل يومي في هذا الجزء أو ذاك من أنحائها وولاياتها المختلفة. ومما يزيد الوضع سوءاً أن صوت العناصر المتشددة هو الأعلى اليوم على جميع الأصوات الدينية الأخرى في باكستان! والحقيقة أن مصرع "تيسير" يتعدى بكثير كونه اغتيال شخص واحد، فهذه الجريمة لا تُفسر إلا بأنها محاولة لإخراس الصوت "الليبرالي" المعتدل بأكثر الطرق عنفاً ودموية. فكأن لسان حال القاتل الذي وجه سلاحه نحو القتيل وأطلق عليه الرصاص يقول: هذا مصير كل من لا يلتزم الصمت منكم. كما أدى اغتيال "تيسير" كذلك إلى تعميق الهوة الفاصلة بين المعتدلين وأولئك المتشددين الدينيين الذين ليست لديهم أي قابلية لسماع أي صوت آخر عدا صوتهم هم، وتصوراتهم هم عن الدين والحياة. ومما لا ريب فيه أن هذه الجريمة قد عززت موقف المتشددين الراديكاليين الذين لم يبد منهم أدنى تعاطف أو رأفة بالقتيل، بل العكس تماماً كالوا ثناءهم وإطراءهم على ضابط الشرطة المتهم بارتكاب الجريمة. وفي بادرة تكشف بوضوح مدى التطرف الذي وصلت إليه بعض التيارات، ألقيت باقات الورود على الضابط المتهم أثناء اعترافه بما فعل بحاكم الولاية الذي كان مفترضاً أن يحرسه ويحميه. ومن الذين احتفوا به من مؤيديه المتشددين من وصفه بـ"المجاهد"، ومنهم من نعته بـ"البطل" في موقع "فيس بوك" الإلكتروني. ويكشف هذا السلوك سعة انتشار التطرف الديني في المجتمع الباكستاني، إلى حد طال أعداداً كبيرة من الشباب. وفي وقت لاحق، نظمت مواكب شعبية في مدينة لاهور تمجيداً لبطولة الضابط القاتل "قادري"! وبين كل هذا الزخم الراديكالي، أرغم الصوت الليبرالي الباكستاني على التزام الصمت التام. يذكر أن القوانين الإسلامية المتشددة كانت قد أدرجت في نصوص الدستور الباكستاني إبان حكم الجنرال ضياء الحق، الذي سن تلك القوانين والتشريعات بغية إضفاء شرعية دينية على حكمه، إثر اعتقاله لخصمه ذي الفقار علي بوتو، الذي كان رئيساً للوزراء عندئذ. وكانت تلك التشريعات قد سنت تحت مسمى "نظام المصطفى" الذي أطلقه عليها الجنرال. ومنذ ذلك الوقت، بقيت واستمرت هذه التشريعات التي أصبحت تركة دينية سياسية للجنرال إلى اليوم. وكما سبق القول، فقد أثارت جريمة القتل التي ارتكبت بحق "تيسير" هذه مخاوف الكثيرين من أن يكون هذا مصير كل ليبرالي يحاول الجهر برأيه بين أصوات جوقة المتشددين المتطرفين الصاخبة. فما أرخص قتل هؤلاء واصطيادهم كما هو واضح عقب الجريمة. بل إن دفن جثمان القتيل نفسه أصبح هدفاً آخر للمتطرفين والمتشددين الذين حذروا رجال الدين والأئمة من الصلاة على جنازته. وبالفعل أحجم كثير من أئمة لاهور عن الصلاة على جنازة القتيل، ولم يصل عليه إلا بعد أن تجرأ أحد أئمة المدينة المعتدلين فأمّ الصلاة على روح الحاكم القتيل. غير أن تهديدات القتل تطال كل من كان طرفاً في شعائر الدفن هذه. أما بالنسبة للإمام الذي صلى على الجنازة، فهو يتعرض الآن لضغط من قبل الجماعات المتطرفة بأن يعلن إنكاره لما فعل، متبوعاً بتجديد شهادته دخوله إلى الإسلام! وفي كل هذا ما يؤكد مدى ثقة وهيمنة العناصر المتطرفة المتشددة على المجتمع الباكستاني اليوم. غير أن وزير الداخلية الباكستاني، رحمن مالك، أعرب عن صدمته لما حدث قائلاً إن جريمة القتل قد ارتكبت على الرغم من طمأنة الجميع قبلها بألا تعديلات تشريعية سوف تجرى على القوانين التي تحرم الإساءة إلى المقدسات الدينية. وأخيراً، فإن مما لا ريب فيه أن باكستان باتت بحاجة إلى قيادة حازمة قوية، بوسعها انتشال البلاد والمضي بها قدماً عبر خطط الانتعاش الاقتصادي والبرامج التنموية. ذلك أن الخطاب السياسي الباكستاني ينبغي له أن يركز على قضايا النمو الاقتصادي ومكافحة الفقر. ولكن المؤسف أن القيادة الحالية بدت عاجزة عن القيام بدورها في أي جبهة من الجبهات. ومهما يكن، فإن هناك حاجة متزايدة لتوفير الحماية الأمنية للأصوات الليبرالية والمعتدلة، والتأكد من قدرتها على البقاء والتعبير عن آرائها داخل المجتمع الباكستاني.