لو طلب من تلميذ مدرسة قبل الرابع عشر من هذا الشهر أن يملأ الفراغ ليكمل اسم بلد الثورة في عنوان هذه المقالة، لما تردد: فاء وراء. ولكن بعد ثورة شعب تونس العظيمة وإسقاط طاغيتهم هذا الشهر، فإن تاريخاً جديداً للثورات بدأ، وسيحتار التلميذ بعد هذا التاريخ: "فر" أم "تو"؟ شعارات الثورة الفرنسية نحتها الثوار منذ اندلاعها: المساواة والحرية والأخوة. بينما لم تنحت شعارات الثورة التونسية بشكلها النهائي وإن كانت مطالبها المباشرة ودوافعها القاهرة ساطعة كالشمس: مطالبها الحرية والكرامة، ودوافعها البطالة وانتشار الفساد. في آخر زيارة لتونس عام 2009، حدثني صاحب التاكسي أن هذا قصر الرئيس بن علي، فأشرت بأصبعي متسائلاً: "هذا؟"، فأنزل يدي بقوة وبسرعة مناشداً باللهجة التونسية الجميلة: "خويا نزل أيدك يعيّشك". أدركت ساعتها مدى الخوف الذي يسيطر على هذا الشعب الراقي بتعليمه وعفويته وكرمه. لا يزال هول الصدمة مخيماً على منطقتنا لسرعة التحولات التي جرت في تونس لتزيل واحداً من أطغى أنظمتنا العربية البوليسية في تونس. كما أن الأحداث تتوالى ومن ثم يصعب رصد التفاصيل في مقالة، لكن ملاحظات مهمة رافقت هذا الحدث الجلل: أولها أن الانتفاضة الشعبية التونسية كانت تلقائية لا يستطيع حزب أو جهة الادعاء بتحريكها أو التحكم فيها، وثانيها أن مطالبها شعبية بحق وندرت فيها الشعارات اليسارية أو اليافطات الدينية التي غالباً ما ترافق مثل هذه التحركات الشعبية، وتحاول مصادرة وقطف ثمارها وتجييرها لصالحها. وضعت يدي على قلبي حين أعلن راشد الغنوشي -زعيم "الإخوان المسلمين"- العودة إلى تونس من منفاه في لندن. هناك من يحاول أن يقطف ثمار تضحيات الشعب التونسي. "حذار من الساسة المحترفين، أو الساسة المنحرفين". هكذا حذر الشاعر التونسي المعروف المنصف المزغني شعبه بتصريح صحفي بعد هروب بن علي بساعات. الثورة التونسية، غيرت مفاهيم أنظمة عربية عديدة، وأرسلت رسالة واضحة ملخصها: الشعب أقوى من أي سلطة. تباينت ردود الأفعال على الثورة التونسية: أميركا تابعت الموقف وأدانت العنف السلطوي ضد المظاهرات، بينما ترددت فرنسا وتأخرت بانتهازية فرنسية مألوفة تنتظر الموجة لتركبها. واضح أن القراءة الأميركية كانت أكثر دقة من الفرنسية التي تدعي الخبرة بمستعمراتها السابقة، وثبت خطأ حساباتها وحاولت أن "ترقـّع" موقفها بعد فوات الأوان. العرب كانوا أكثر الأطراف مراقبة للمشهد، ليس بالضرورة لأنهم غير مكترثين، لكن بصراحة لأنهم لم يكن بيدهم ما يمكن عمله. العجز العربي شامل وليس محصوراً بتونس، ناهيك عن أن الشعب التونسي ما كان ليأبه لأدوات قمع نظامه، فما بالك بردود أفعال جيرانه. الزعيم الليبي وحده أدان الإطاحة بالرئيس بن علي. حجة القذافي أنه ما من فائدة ترجى من تغيير رئيس بآخر، ناصحاً جيرانه التوانسة أن يأخذوا بالنموذج الليبي في الحكم الذي لا يعرف رئيساً ولا انتخابات ولا حكومة ولا سلطة، حيث إن السلطة في ليبيا للشعب من خلال اللجان الشعبية -كما نصح الزعيم القذافي، وهو ما حوّل ليبيا إلى جماهيرية شعبية اشتراكية عظمى، وما جعل من القذافي ملكاً لملوك أفريقيا كلها! الثورة التونسية بداية صفحة جديدة في تاريخ منطقتنا، والمحبون لهذا البلد الكريم ويتمنون استقراره يخافون من أمرين: تطورات تؤدي إلى انفلات يغذيه أتباع النظام السابق بشعار: "أنا الغريق فما خوفي من البلل"، أو بقاء النظام بأعوانه بعدما رحل رمزه وقائده -بن علي. "فر" بن علي بعد كر الشعب طلباً للحرية، و"للتو" بدأ مستقبل جديد لتونس الخضراء وشعبها الكريم.