نقرُّ جميعاً بأن الاتحاد الأوروبي يقف، بشكل عام، موقفاً مؤيداً للشعب العربي الفلسطيني، على المستويين السياسي والاقتصادي والمجتمعي وحتى المستوى العلمي. والاتحاد الأوروبي هو أكبر جهات الدعم المالي للسلطة الفلسطينية. ورغم بياناته السياسية الجيدة، سواء حول مدينة القدس المحتلة أو "المستوطنات" (المستعمرات)، بل والحصار على غزة، فإن بقاء هذه البيانات دون التحرك على الأرض يجعل دور الاتحاد شبه أفلاطوني! من هنا كان أمراً متوقعاً أن يثير التقرير الحاد الذي صاغه ممثلو وقناصل الدول الأوروبية في القدس المحتلة ورام الله، ورُفع مؤخراً إلى مفوضية الاتحاد الأوروبي، أن يثير غضب الحكومة الإسرائيلية. وكما جاء على لسان "ماجا كوسيجانيك"، المتحدثة باسم مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، فإن التقرير الذي أعدته بعثة الاتحاد الأوروبي الموجودة على الأرض هناك، يقضي بضرورة تشديد الاتحاد خطوات الاحتجاج تجاه إسرائيل والتعامل مع شرقي القدس كعاصمة فلسطين، متضمناً سلسلة من التوصيات "العملياتية" لفرض عقوبات على الدولة العبرية. ولعل الجديد في هذا التقرير، هو الدعوة الصريحة للاتحاد الأوروبي من أجل العمل على اعتبار القدس الشرقية عاصمةً للدولة الفلسطينية، وعدم الانتظار حتى التوصل إلى اتفاق سياسي بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل... ما يعني عملياً أنه على الاتحاد التصرف بشكل مستقل عن المفاوضات، الأمر الذي يقضي بمعارضة كافة الإجراءات التي تقدم عليها إسرائيل داخل القدس الشرقية حتى لو تطلب الأمر فرض مقاطعة من الاتحاد الأوروبي على إسرائيل. من هنا جاء الرفض الإسرائيلي "القاطع" لبيان القناصل، لجهة انتقاده هدم فندق "شيبرد" في منطقة مقر مفتي القدس الأسبق الحاج أمين الحسيني، حيث قال الناطق باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية إن "تسمية القدس مستوطنة فهم خاطئ وإهانة لتاريخ المدينة"! زعماً في هذا الخصوص أن "الخلط بين مسائل الحقوق الخاصة والحق الدولي والسياسي أمر غير مفهوم"! بل رفض موقف وزيرة الخارجية الأميركية التي رأت أن "هذا التطور المقلق يضرّ بالجهود التي تبذل من أجل السلام والهادفة إلى إقامة دولتين للتوصّل إلى حل". وبحسب التقرير، يستمر في القدس الشرقية "التوسع الاستيطاني، وسياسة هدم منازل الفلسطينيين وإخلاء عائلات من منازلها، وعدم المساواة في التعليم، والنواقص في الخدمات الطبية للسكان الفلسطينيين". وكل هذه الإجراءات، يضيف التقرير، "تشكل ليس فقط مساً إنسانياً، بل وتضعف أيضاً الوجود الفلسطيني في المدينة". ويستخلص التقرير أن "هناك معاني سياسية واسعة تثير القلق الشديد، فنشاطات إسرائيل في المدينة تتعارض والمسيرة السلمية وتصعد الصراع... وإذا لم تتوقف الميول (التوسعية التهويدية) الحالية في شرقي المدينة بسرعة، فإن إمكانية أن تصبح شرقي القدس عاصمة الدولة الفلسطينية غير قابلة للتحقق. كما أن هذه الخطوة تُعرض للخطر الكبير احتمال الحل السلمي على أساس الدولتين". بل إن الموقف الملفت، والذي زاد من غضب الإسرائيليين كذلك، هو قيام القناصل بتقديم توصية إجرائية جريئة دعت إلى "أن يكون الممثلون الأوروبيون حاضرين في كل حالة هدم منازل أو إخلاء عائلات فلسطينية من منازلها. وبأن يكون الممثلون حاضرين أيضاً في الإجراءات القانونية المتعلقة بهدم المنازل أو اعتقال نشطاء فلسطينيين، بسبب النشاط السياسي غير العنيف في شرقي المدينة". إن السياسات الاستعمارية "الاستيطانية" للحكومة الإسرائيلية الحالية لن تؤدي سوى إلى مزيد من تأجيج المواقف وإثارة المشاعر، ليس في فلسطين وحدها وإنما في العالمين العربي والإسلامي، وبالذات بعد أن باتت المخططات الإسرائيلية في القدس الشرقية مكشوفة وظاهرة للعيان، بل ومتغطرسة. وفي واقع الأمر، أصبح جلياً أن الأوروبيين رأوا بأم عيونهم، وأدركوا عبر معايشتهم اليومية للأوضاع في القدس الشرقية، ما تهدف إسرائيل إلى تحقيقه: تعزيز التواجد اليهودي في عاصمة فلسطين، وإفراغها من أبنائها الفلسطينيين عبر هدم منازلهم وسحب هوياتهم والتضييق عليهم، ووضعهم في غيتوهات معزولة تمهد لعملية طرد (ترانسفير). هذا التحول في الموقف الأوروبي، كان قد سبقه في 13 ديسمبر الماضي تأكيد وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي استعدادهم للاعتراف بالدولة الفلسطينية "عندما يحين الوقت المناسب"، وتشديدهم على أن الاتحاد "لن يعترف بأي تغيير في حدود عام 1967 للدولة الفلسطينية المقبلة، ما لم يكن هذا التغيير متفقاً عليه بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي"، مع التأكيد القديم الجديد على قلق الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بالحقائق على الأرض وتأثيرها السلبي على عملية التسوية. لكن رغم أن الاتحاد يملك مقومات هائلة تؤهله للعب "دور ملائم" في عملية التسوية والتأثير الفعلي على الساحة الدولية، فإنه مايزال، حتى الآن، يحجم عن التصرف وفق حجمه الحقيقي، بل مايزال يتعامل مع مختلف القضايا العالمية، ومن بينها القضية الفلسطينية، بتردد خجول! وربما يكون التقرير، كما قالت "كوسيجانيك"، لا يتعدى كونه "مساهمة في النقاش الأوروبي الداخلي من أجل تحديد آليات التعامل مع الصراع في الشرق الأوسط، وأنه غير ملزم وغير رسمي"، خاصة على صعيد فرض عقوبات أو إجراءات أوروبية على إسرائيل لحثها على العمل باتجاه السلام. إلا أن غالبية المراقبين والمهتمين أصبحوا الآن بانتظار إثبات الاتحاد الأوروبي جديته في التعامل مع مثل هذه التقارير، كي لا تبقى مجرد حبر على ورق. فالتقرير الأخير يسجل، بما لا يدع مجالاً للشك، أن إسرائيل جادة في عملية التهويد ومسح الهوية الفلسطينية العربية في القدس، وأنها غير معنية لا بالسلام ولا باستقرار الأوضاع في الشرق الأوسط، مثلما يسجل ارتفاعاً في منسوب الوعي، وبالتالي القلق، الأوروبي والعالمي. فهل يتجسد هذا الوعي القلق في إجراءات عملية على أرض الواقع؟ وهل يكون لدق القناصل الأوروبيين على "جدران الخزان" الذي يجدون أنفسهم يحترقون قلقاً داخله، هل يكون له الصدى المطلوب عربياً، وإسلامياً، وعالمياً؟