أعتقد أن رئيس مجلس النواب الأميركي الجديد "جون بوهنر" ليس هو رجل الدولة الأكثر ذكاءً، الذي يتولى هذه الوظيفة على الإطلاق (حيث يتفوق عليه نويت جينجريتش في هذه النقطة) وليس أيضاً الأكثر ريادة (تتفوق عليه نانسي بيلوسي في هذه النقطة)، وليس الأكثر كاريزمية (نادراً ما يحرز رؤساء مجلس النواب درجات عالية في هذا التصنيف). ولكن الأمر المؤكد هو أنه واحد من أكثر من تولوا هذه الوظيفة تواضعاً على الإطلاق وهي مسألة مهمة للغاية خصوصاً إذا ما عرفنا أن التواضع صفة من الصفات النادر توافرها في السياسيين، بصفة عامة. وهذه الصفة ستكون لها فائدة في فترة التجاذبات والمصادمات القادمة التي ستنتج عن الحكومة المنقسمة (عندما تكون أغلبية الكونجرس من حزب ورئيس الجمهورية من حزب آخر). فمنذ أن حقق "الجمهوريون" الذين ينتسب إليهم "بوهنر" فوزاً حاسماً في انتخابات التجديد النصفي وأصبح لهم 63 مقعداً، وهم يزعمون في بعض المنابر الكبرى للمحافظين، أن الشعب الأميركي قد منحهم تفويضاً من خلال التصويت لصالحهم. وإذا ما استمعت لبعض أعضاء مجلس النواب من "الجمهوريين"، فستجدهم يقولون إن الناخبين قد اتحدوا جميعاً في المطالبة بإلغاء قانون أوباما للرعاية الصحية، والعودة إلى نسخة الدستور التي صاغها الآباء المؤسسون، ووضع نهاية لمعظم اللوائح التنظيمية البيئية والتجارية، والتحقيق مع وزير العدل "إيريك هولدر"، وإجراء تقليص شامل في صلاحيات "الاحتياطي الفيدرالي". هذا ما يزعمه "الجمهوريون" بشكل عام، ولكن "بوهنر" تحديداً يعرف أن الناخبين لم يكونوا متحدين في مطالباتهم بتلك الأشياء، وهو ما دفعه هو ومجموعة مستشاريه إلى تقطير أجندته واستخلاص قائمة أولويات صغيرة منها تقتصر على: تقليص حجم الحكومة، وتقليص حجم الإنفاق، واعتماد سياسات صديقة للأعمال، للمساعدة على خلق وظائف في القطاع الخاص. وفي خطابه المختصر الخافت النبرة الذي ألقاه بعد انتخابه رئيساً لمجلس النواب، يوم الأربعاء الماضي، قال "بوهنر": "إن ما يريده الشعب الأميركي باختصار هو حكومة أمينة، مسؤولة، ومستجيبة لحاجته... حكومة تحترم الحرية الفردية، والشرف والتراث الأميركيين، وتنحني أمام الشعب الذي تخدمه". وبالطبع كان بإمكان "الديمقراطيين" أن يقولوا عبارات مثل هذه؟.. إذ لا خلاف على أن كلمات مثل "الحرية" و"التراث" لم تكن من الكلمات المتداولة في معظم الخطب السياسية "الجمهورية" العام الماضي... أليس كذلك؟ غير أن أحد كبار مستشاري "بوهنر" وهو "ديفيد وينستون" كان أكثر مباشرة في التعبير عن أولويات "الجمهوريين" في العمل في الكونجرس عندما قال لي: "إن التفويض الممنوح هو إيجاد وظائف.. فتلك هي الرسالة التي ساعدتنا على كسب أغلبية المقاعد وأولويتنا اليوم هي أن نستمر في التركيز على هذه النقطة على وجه التحديد". ولكن المشكلة هنا أن استمرار التركيز على هذه النقطة تحديداً، يعني أن "بوهنر" سيؤجل حملة توجيه النقد والضربات لأوباما وهي تلك الحملة التي يتحرق بعض الناخبين "الجمهوريين" لرؤيتها. ومن المتوقع عندما يتخذ مجلس النواب بعض الخطوات الرمزية المناوئة لأوباما، وهو ما سيفعله قريباً جدّاً عندما يطالب بالتصويت من أجل إلغاء قانون الرعاية الصحية، فسيتم تصوير مثل هذه الخطوات على أنها تصب في النهاية في مصلحة هدف خلق وظائف جديدة. والأرجح أن هذا التصويت لن يمر من مجلس الشيوخ كما هو متوقع، ولكن "بوهنر" سيستخدم الإجراء الذي اتخذه مجلس النواب، لإثارة الاتهام المفضل لديه ضد "الديمقراطيين" وهو: تفضيلهم لنمط الحكومة الكبيرة التي تؤدي في النهاية لقتل فرص الوظائف. كما سيستغلونه للترويج لأجندتهم القائمة على خفض الإنفاق، وتخفيف القيود التنظيمية على اعتبار أن الاثنين يعدان من أفضل الوسائل لتنشيط الاقتصاد، وخلق المزيد من الوظائف. والمشكلة هنا هي أنه إن كان معظم الناخبين "الجمهوريين" قد عبروا عن رغبتهم في إلغاء قانون الرعاية الصحية، إلا أن معظم استطلاعات الرأي ومنها استطلاع مهم أجرته مؤسسة "بلومبرج" الشهر الماضي أظهرت أن معظم الناخبين "المتأرجحين" الذين كان لهم الفضل في وضع "الجمهوريين" على القمة لا يشاركونهم مع ذلك الرأي حول الرغبة في إلغاء قانون الرعاية الصحية، بل إن الشعب الأميركي برمته منقسم حول هذا الأمر. وكذلك وجد استطلاع "بلومبرج" أنه، إن كان معظم المشاركين في الاستطلاع يحبذون إجراء خفض في الإنفاق، إلا أنهم يتراجعون قليلاً عن موقفهم عندما يتعلق الأمر بأنواع معينة من الخفوضات مثل تجميد الإنفاق الفيدرالي على التعليم، أو تقليص الإعانات والدعم المقدم للمزارعين. وفي هذا الخصوص يمكن القول إن "بوهنر" قد حشر نفسه في زاوية من نوع ما حيث كان قد وعد بخصم ما يقدر بمئة مليار دولار من الإنفاق المحلي هذا العام واستثنى قطاعين فقط من هذا الخصم هما برامج الدفاع والأمن الداخلي. وستتطلب المحافظة على هذا الوعد تقليص 20 في المئة تقريباً من البرامج مثل التعليم والمواصلات، وغير ذلك من المجالات التي تتصل اتصالًا مباشرة بمصالح الشعب. ولكن الاختبار الأصعب الذي سيتعرض له "بوهنر" هو ذلك الذي سيحدث في شهر مارس المقبل عندما تحاول الحكومة معارضة فرض سقف على الإقراض وهو القانون الذي وافق عليه الكونجرس. ونظراً لأن استمرار مثل هذا القانون قد يعطل عمل الحكومة، بل وسيضطرها للتوقف فعليّاً عن العمل، يخطط "بوهنر" لاستخدام هذا القانون كورقة للمساومة لإجبار أوباما على خفض الإنفاق دون أن يقوم بإغلاق عمل الحكومة (وهو ما اتبعته الحكومة عام 1995 ضد رئيس مجلس النواب جنجريتش) أو تجنب ما هو أسوأ من ذلك وهو إعلان عدم قدرة الحكومة على سداد الديون المستحقة عليها وهذا أمر ستكون له نتائج كارثية على الأسواق المالية. لقد فاز "بوهنر" في نوفمبر بفضل عوامل عديدة منها الاقتصاد المتراخي، والخصوم الفاقدون للروح المعنوية، والقاعدة الانتخابية التي كانت مستعدة لتوجيه اللوم لـ"الديمقراطيين" بسبب جميع الإخفاقات التي عانوا منها خلال العامين اللذين قضوهما في الحكم. ولكي ينجح "بوهنر" في انتخابات 2012 فإنه سيحتاج إلى جميع مهاراته وقدراته، وإلى كل الانضباط الذي سيتمكن من تحقيقه في الكونجرس على نوابه -كما سيحتاج إلى قدر من التواضع أيضاً. وهو إلى جانب كل ما سبق فهو رجل ذو كاريزما محدودة، هذا إذا كانت له كاريزما من الأساس. ولكن حسب الدرس الذي يفترض أن "الديمقراطيين" قد تعلموه من تجربة الخريف الماضي، فإن الاستهانة بهذا الرجل رهان لا يخلو من مجازفة ومخاطر سياسية. دويل مكمانوس كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة" أم. سي. تي. إنترناشيونال"