يقول "جيدون راشمان" المحلل السياسي المتخصص في الشؤون الدولية، ومؤلف الكتاب الذي نعرض هنا، "المستقبل الصفري... القوة الأميركية في عصر القلق"، إن عالمنا المعاصر الذي نعيش فيه، عالم قلق، أقل استقراراً أمنياً وسياسياً، وأبعد من أن يوصف بالازدهار الاقتصادي. وفيه تحل أيديولوجيات وقوى جديدة صاعدة محل الأيديولوجيات والقوى التقليدية القديمة. وإذا كان مختلف الرؤساء الأميركيين المتعاقبين قد رحبوا بصعود الصين باعتبارها قوة دولية جديدة صاعدة، فمن المتوقع أن يشتد التنافس بين الدولتين، في ظل ظروف دولية جديدة تهيأت فيها الأجواء لاحتدام التنافس بين واشنطن وبكين، بسبب تراجع النفوذ الاقتصادي والدولي لأميركا. ومن التغيرات الجيوسياسية التي يشهدها عالم اليوم، التصدعات الحادثة داخل الاتحاد الأوروبي، وانهزام مشروع العولمة بوعوده الاقتصادية الكبيرة التي انكشف زيفها وعجزها عن تحقيق الرفاه الاقتصادي لغالبية سكان العالم. واليوم فقد تهيأت الظروف والأجواء -كما يقول المؤلف- لسيادة منطق صفري لاحتدام النزاعات السياسية والاقتصادية في النظام العالمي الجديد. بعبارة أخرى يحذر المؤلف من مخاطر أزمة سياسية دولية بدأت سحبها تتراكم وتلوح في الأفق. فبفعل سيادة الأيديولوجية الصفرية -محل أيديولوجية العولمة والتكامل الاقتصادي بين الأمم والدول- تتعثر الجهود الرامية للتصدي للمشاكل الدولية الممتدة من أفغانستان وخطر التغير المناخي، وصولاً لارتفاع معدلات البطالة العالمية واستمرار تأثيرات الأزمة المالية الاقتصادية الأخيرة. ويتناول المؤلف موضوع دراسته في ثلاثة أقسام؛ أولها القسم الذي وصفه بأنه "عصر التحولات" الذي بدأ في عام 1978 بصعود دنج في الصين وتاتشر في بريطانيا، مع ملاحظة أن كليهما كان ثورياً في تبنيه لنمط اقتصاد السوق الحرة. وينتهي ذلك العصر بحلول عام 1991 الذي شهد تفكك النظم السياسية والعسكرية الحاكمة في كل من الاتحاد السوفييتي وأوروبا الشرقية والعديد من دول أميركا اللاتينية. كما شهد العام نفسه أحداث حرب الخليج التي شنتها الولايات المتحدة على العراق وأرغمت جيشه على الخروج من الكويت. ويتجاهل الكاتب الانتفاضات وحركات التغيير السياسي التي شهدتها دول عديدة، مثل بولندا وجنوب إفريقيا والبرازيل وغيرها، والتي قادتها اتحادات ونقابات العمال، واستخدمت فيها وسائل التغيير السياسي التقليدية مثل الإضرابات العامة، واحتلال المصانع وورش العمل، إضافة إلى إقامة التحالفات السياسية مع فئات المثقفين بغية التخلص من النظم الشمولية الحاكمة. أما القسم الثالث والأخير من الكتاب، فيتناول ما وصفه المؤلف بـ"عصر التفاؤل" الذي يمتد حسب توصيفه بين الأعوام 1991و2008. وفيه ظهرت تكنولوجيا حديثة، وبرز اتحاد أوروبي بدا أكثر تماسكاً ووحدة، كما صعدت فيه الطبقات الاجتماعية الوسطى الآسيوية، وتوفرت فيه ظروف اقتصادية ساعدت على خروج مئات الملايين من هوة الفقر في مختلف دول العالم وبلدانه النامية. وفي هذا العصر بدا منتدى دافوس الاقتصادي العالمي الممثل للدول الصناعية الثماني الكبرى، وكأنه يحكم العالم بالفعل ويقرر مصيره. غير أن التغيرات الجيوسياسية التي شهدها العالم خلال "عصر التفاؤل" وما بعده، كشفت النقاب عن حقيقة العولمة وعدم واقعية وعودها الزاهية البراقة، فضلاً عن كشفها جملة من التحديات الأمنية السياسية الدولية التي لا توجد حلول سوق لها. ذلك أن العولمة طرحت نفسها في ذلك العصر وكأنها حل سحري شامل لجميع المشاكل والتحديات التي يواجهها النظام الدولي. وبذلك نصل مع المؤلف إلى "عصر القلق" الحالي. وفيه انقلب الساسة على العولمة وعادت حكومات الدول إلى حماية منتجاتها واقتصاداتها المحلية بدلاً من سياسات السوق الحرة التي كانت تقوم على كسر الحواجز بين الدول. كما تعززت في العصر نفسه سياسات تأكيد الهويات الوطنية للشعوب والدول. وضمن هذه التغيرات تعززت ثقة جديدة ببعض النظم الشمولية الحاكمة، لاسيما النموذجان الصيني والروسي. وبالنسبة للصين فقد حدث تزاوج متنافر بين الشيوعية والرأسمالية، في حين شهدت روسيا تزاوجاً مماثلاً بين الرأسمالية والكوادر التي عملت سابقاً في جهاز الـ"كي جي بي" الاستخباراتي، الموروث من العهد السوفييتي. والكتاب لا ينحصر في مجرد التحذير من مغبة المنطق الصفري الذي بدأ يسود العالم، وما يستتبع ذلك من تحديات أمنية وسياسية كبيرة يواجهها النظام الدولي، وإنما يتخطى التحذير إلى طرح الحلول الممكنة. وفي مقدمة ما يطرحه ويدعو إليه: عودة قوية وواثقة للدور القيادي العالمي. ومن رأيه أن هذه العودة لن تكون ممكنة إلا بخروج أميركا من مأزقها العسكري الحالي في كل من أفغانستان والعراق. وينطلق المؤلف من قناعة خاصة هنا، مفادها أن العالم الديمقراطي بحاجة ماسة إلى تعزيز دفاعاته في مواجهة التهديدات الأمنية الكبيرة -ليس أقلها خطر الإرهاب والتطرف الديني- ولكن ليس عليه أن يفعل ذلك بشن حروب وخوض مغامرات عسكرية جديدة ترمي لإحداث تحولات ديمقراطية وبناء أمم أثبتت التجارب العملية صعوبة تحقيقها. عبدالجبار عبدالله الكتاب: المستقبل الصفري المؤلف: جيدون راشمان الناشر: مجموعة "سايمون آند شوستر" للطباعة والنشر تاريخ النشر: 2011