تعودنا في العلوم السياسية على تأكيد فكرة مؤداها أن أحد أركان الديمقراطية كنظام سياسي، هو مبدأ تداول السلطة. وتداول السلطة كان ومازال محور نظرية الديمقراطية من ناحية المبدأ ومن زاوية الممارسة. غير أنه في المؤسسات العلمية، وخصوصاً مراكز الأبحاث، لم يحدث اهتمام مواز بأهمية مبدأ تداول السلطة بين القيادات العلمية. ويمكن القول إن أحد فروع علم الاجتماع التي لم تنل حقها في العالم العربي والتي تهتم أساساً بتنظيم ومشكلات المجتمع العالمي هو "علم اجتماع العلوم". وهذا العلم يركز على الدور الحاسم الذي يلعبه القادة العلميون، خصوصاً فئة مديري مراكز البحوث في وضع خطط البحث العلمي وفق رؤية متكاملة تعكس الثقافة النظرية والخبرة العملية لمدير المركز وقدراته العالية على تشكيل فرق البحوث العلمية، ومتابعة أعمالها ونشرها، إضافة لقدراته على التجدد المعرفي والتخطيط المستقبلي. أكتب ذلك بمناسبة صدور العدد الأخير من مجلة "المستقبل العربي"، الصادرة عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، وقد تضمن افتتاحية مدير عام المركز ورئيس التحرير بعنوان "مركز دراسات الوحدة العربية على مشارف مرحلة جديدة"، يخبرنا فيها أنه حدث تداول لقيادة المركز، إذ آثر هو أن يعتزل إدارة المركز، والتي تولاها منذ نشأته حتى الآن، حيث خلفه أكاديمي مرموق هو الدكتور يوسف الشويري. وهذا الخبر العلمي المهم يستدعي أن نستعيد لذاكرة المجتمع العربي أن مركز دراسات الوحدة العربية الذي اجتمع على تأسيسه نخبة مختارة من المثقفين العرب منذ أكثر من ثلاثين عاماً ليكون أول مركز علمي عربي يتخصص في مسائل الوحدة العربية بجوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، اختارت الدكتور حسيب ليكون مديراً للمركز، وهو أستاذ اقتصاد ومفكر عراقي مرموق، سبق أن شغل وظائف اقتصادية بالغة الأهمية في العراق، قبل أن يعمل لسنوات طويلة مستشاراً اقتصادياً لهيئة "الإسكوا" في بيروت. غير أن التاريخ سيسجل له ليس فقط الوظائف الرسمية التي شغلها، رغم أهميتها البالغة، وأدائه العلمي والقومى الرفيع، بل دوره الخلاق في تأسيس المركز وتخطيط بحوثه، والإشراف الدقيق على تنفيذها. لقد كانت لديه منذ البداية رؤية متكاملة لعمل المركز، وكأي مدير علمي قدير اعتمد على مجموعة من كبار الباحثين العرب في كافة التخصصات، ليكونوا "لجنة استشارية". وأجاد تشكيل الفرق البحثية المختلفة، وحشد أبرز العقول العربية في ندوات كبرى تناولت مشكلات المجتمع العربي. ونتيجة لجهده المتواصل استطاع أن ينشئ، لأول مرة في التاريخ الثقافي العربي المعاصر، مجتمعاً فكرياً عربياً يضم كل العقول الفعالة والشخصيات المرموقة في مجالات الفكر العربي المعاصر. ذابت في مؤتمرات المركز وندواته الفروق بين المثقفين المشارقة والمغاربة، وتعمقت أواصر التواصل بين مختلف فئات الباحثين والمثقفين العرب. وتشهد على ذلك ندوات المركز، ومن أبرزها "أزمة الديمقراطية في الوطن العربي" التي انعقدت في نوفمبر 1983، بقبرص، بعد أن رفضت كل العواصم العربية استضافتها. وقد اخترت هذه الندوة التاريخية التي جمعت المثقفين العرب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، لأنها تناولت بشجاعة وجسارة أزمة الديمقراطية في الوطن العربي، ولأنه في جلساتها الختامية أعلن عن تشكيل "الجمعية العربية لحقوق الإنسان" التي لعبت من بعد أدواراً سياسية بالغة الأهمية. وباعتباري من "المجاهدين" القدامى في مجموعة خبراء المركز، أستطيع تحديد ملامح عبقرية حسيب في إدارته العلمية والإدارية والمالية لمركز دراسات الوحدة العربية. ومازالت أذكر أنه كان يزور القاهرة ويقيم معسكراً علمياً لمجموعة منتقاة من الخبراء العرب ينعقد في أحد الفنادق ويعكف على التخطيط لبحوث المركز خلال السنوات الخمس التالية. عمل متصل كان يقوم به الخبراء، حيث لا يقنع "قائد المعسكر" بالاقتراحات التي تقدم لدراسة بعض البحوث، بل يطلب من كل صاحب خطة تسجيلها في صورة مشروع بحثي، وفي نهاية الأسبوع المضني تخرج وثيقة تتضمن مشروعات بحوث المركز وندواته في السنوات الخمس التالية. ليس ذلك فقط، بل إن حسيب بصرامة شديدة مشهورة عنه، يتابع تكليفات الباحثين والخبراء بكل دقة، ولا يتوانى أحياناً عن إرسال رسائل "توبيخ -وإن كانت رقيقة- لكل من تأخر عن تسليم بحثه. لذلك أطلقنا عليه نحن معشر تلاميذه وأصدقائه من الباحثين والمثقفين "الجنرال حسيب"، لدقته في المتابعة واحترام التوقيتات. وقبل أن تشيع مفاهيم ومصطلحات الجودة في علم الإدارة، أنشأ نظاماً لضمانات جودة المنتج العلمي في المركز، عبر وضع آلية بالغة الدقة لتحكيم مشاريع البحوث قبل إجرائها، وتحكيم البحوث بعد انتهائها بناءً على تقارير يكتبها خبراء متعددون. حسيب من بناة المؤسسات، يشهد على ذلك تأسيسه لـ"المنظمة العربية" للترجمة، والتي أصبحت في مقدمة المؤسسات العربية في مجال ترجمة الكتب والمراجع الكلاسيكية في مجالات الفلسفة والاقتصاد والاجتماع وعلم النفس، بالإضافة إلى ترجمة أهم الكتب الحديثة. وقد أسس "المؤتمر القومي العربي" والذي أصبح أهم تجمع للمثقفين القوميين العرب، كما أشرف على تنظيم العديد من ندوات "الحوار القومي الإسلامي"، وأشرف بنفسه على مشروع "استشراف مستقبل العالم العربي"، والذي أصبح مدرسة علمية خرّجت عدداً من الأساتذة المرموقين. علاوة على "المشروع النهضوي العربي" الذي طرح منذ شهور وكان خاتمة جهود بحوث استمرت سنوات. وإذا سمحت لنفسي بالتحدث عن خبرة مباشرة في التعامل مع حسيب، فأشير إلى تكليفه إياي مع عدد من كبار المثقفين بالتخطيط لندوة عن "التراث وتحديات العصر في الوطن العربي"، عقدت بالقاهرة، ونشرت أعمالها في مجلد ضخم في أغسطس 1985، وكلفني بتحرير أعمالها. وحين عدت منذ أيام إلى المقدمة التي كتبتها لهذا المجلد، حيّرني منهج تحرير أعمال هذه الندوة الحافلة ببحوث قيمة قدمها نخبة من أبرز المفكرين العرب؛ مثل الجابري، وتيزيني، وأركون، والدجاني، وزريق، والبشري، وقلادة، وأبوالمجد، وسعد الدين إبراهيم، وعبد الله عبدالدايم، وجلال أمين... أكتب هذا المقال تحية خالصة لأستاذي وصديقي الذي تعلمت منه الكثير، الدكتور خير الدين حسيب الذي سيكون رئيساً لمجلس أمناء المركز، وللدكتور الشويري الذي نرجو له التوفيق في إدارة مركز استطاع عبر السنوات الممتدة أن يقدم للمجتمع العربي أهم مكتبة علمية متكاملة تعنى بشؤون العرب في الماضي والحاضر والمستقبل.