يرحل الطغاة وتبقى الشعوب! هذه هي حقيقة التاريخ وصيرورة الحياة. وبالطبع يسقط ضحايا على طريق الحرية، ويموت الآلاف من أجل أن ينجلي الليل وتشرق شمس الحقيقة. وها هو الشعب التونسي يحقق نبوءة شاعره الأشهر أبو القاسم الشابي: إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر وهكذا تكون أداة التغيّر مهما طال أمد الظلم والفساد والطغيان. الزمن كفيل بمحو الطغاة وهز الكراسي تحتهم مهما كانت منيعة ومسيجة بالحديد والنار! لم يصمد عرش هيلاسيلاسي، ولا عرش شاه إيران، ولا قصر ماركوس الفلبين، ولا نجوم جعفر نميري، ولا جبروت صدام... قالت الشعوب كلمتها فاهتزت العروش. ومن عناوين الصحف العربية الصادرة عشية سقوط نظام بن علي: "انفجرت تونس وهرب الرئيس"، "انتفاضة البطالة تسقط بن علي"، "شعب تونس أراد الحياة... فهرب بن علي"، "انتفاضة شعبية تطيح بن علي". وقد ذكرت "الاتحاد" في تقرير لها أن ما حدث في تونس "ثورة اجتماعية" انطلقت في 17 ديسمبر ضد غلاء المعيشة والبطالة والفساد، إثر انتحار الشاب التونسي "محمد البوعزيزي" بإضرام النار في نفسه بمدينة "سيدي بوزيد"، احتجاجاً على مصادرة عربته التي يبيع عليها الخضار. أما صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور" الأميركية فاعتبرت أن ما حدث في تونس رسالة للأنظمة العربية التي تعتمد في بقائها على قمع معارضيها. ورأت الصحيفة أن ما حدث في تونس يمكن أن يمتد إلى بلدان عربية كثيرة، لاسيما أن المطالب الأساسية للمتظاهرين تمثلت أول الأمر في إنهاء البطالة وخفض الأسعار، لكنها سرعان ما تحولت إلى ثورة غاضبة ضد النظام القمعي، وذلك على الرغم من استضافة تونس للمكتب الإقليمي للبرنامج الإصلاحي الديمقراطي التابع لوزارة الخارجية الأميركية والمعروف باسم "مبادرة الشراكة الشرق أوسطية". ويبدو أن ما حدث ينطوي أيضاً على رسالة للعالم مفادها أن المكاتب والمؤسسات الغربية والأميركية لا يمكن أن تحمي الأنظمة، طال أمد القهر وأعوام العذابات أم قَصُرا. لقد رحبت المعارضة التونسية بما حدث في تونس واعتبرت يوم الجمعة الماضي يوماً تاريخياً حققه الشعب التونسي بدمائه وتضحياته بعد أكثر من عقدين عايش خلالهما الكثير من الاضطهاد والقهر والظلم والرئاسة مدى الحياة... كما جاء على لسان الأمينة العامة لـ"الحزب الديمقراطي التقدمي" المعارض. وقد ظهر الرئيس التونسي قبل أسبوع على شاشة التلفزيون، بعد أن رأى أن الأمور بدأت تفلت من يده، ظهر متردداً وخائفاً، مستجدياً الشعب وقائلا بأنه فهم الجميع، حيث دعاِهم إلى وضع أيديهم في أيدي البعض، قائلاً إنه أبلغ وزير الداخلية بعدم استخدام الرصاص لأن استخدامه غير مبرر، وأنه كلف لجنة مستقلة بتحديد مسؤوليات جميع الأطراف، بكل نزاهة ومسؤولية، وأنه كلف الحكومة بتخفيض أسعار المواد الأساسية، كما تعهد بضمان الحرية الكاملة للإعلام وعدم التعرض لمواقع الإنترنت، وأنه ضد مظاهر الرشوة والفساد، وسيعمل من أجل الديمقراطية وتفعيل التعددية وصون الدستور..! وكان رجاؤه أن يبقى في الحكم حتى عام 2014، حيث قال بأنه لن يرشح نفسه مرة أخرى! بيد أن كل تلك الوعود والتوسلات لم تجد في وقف انتفاضة الفقراء والعاطلين عن العمل، والشرفاء الذين عانوا عقوداً من القهر والفقر، فلم يتوقف هدير الجماهير التي اعتصمت أمام وزارة الداخلية مطالبة بتنحي الرئيس. وقف الشباب الغاضب يحمل لافتات تقول: "تونس حرة... بن علي بره". وهكذا رحل بن علي بعد أن رأى أن لا مكان له في بلده، وأنه ضيّع عليه الفرصة كي يعيش شعبه كريماً حراً مثل بقية الشعوب. ويتوقع المراقبون أن تزداد أعمال العنف خلال الأيام والأسابيع القادمة؛ لأن تشكيل حكومة برئاسة رئيس الوزراء السابق (الغنوشي) هو إجراء مع دستوريته إلا أنه لم يكن ليرضي الشعب التونسي، فالغنوشي ومعه الرئيس المؤقت، كانا قد شاركا في كثير من السياسات السابقة ضمن نظام بن علي. والغريب في قضية خروج بن علي من تونس هو موقف فرنسا التي كانت الصديق والحليف الأقرب إليه، حيث رفضت استقبال طائرته فحط بها في المملكة العربية السعودية، وبعض الأنظمة العربية، بدأت اتخاذ إجراءات وقائية سمعنا عن بعضها وربما سنسمع عن بعضها الآخر خلال الفترة القريبة القادمة. والغريب في الأمر أيضاً أن الأحزاب الإسلامية بقيت بعيدة عن المشهد التونسي، حيث تركزت المظاهرات حول البطالة وارتفاع الأسعار والفساد... فهل تبقى هذه الحركات بعيدة عما يجري في تونس؟ وهل يتراجع عمل مؤسسات المجتمع المدني هناك؟ سؤالان حتماً ستجيب عليهما الأيام القليلة القادمة. ومهما يكن من أمر فإننا نقف مع الشعب التونسي الشقيق في رأيه حول إدارة أمور شأنه العام، ونترحم على شهدائه الذين قضوا في "ثورة الياسمين"، ونحتسبهم عند الله مع الشهداء والصديقين. ونأمل أن تشرق شمس الحرية والعدالة والديمقراطية على تونس، وأن يتم تفعيل مؤسسات المجتمع المدني لتعمل مع الحكومة من أجل أن تبقى تونس خضراء دائماً.