يحمل التنافس على تقاسم مناطق النفوذ في العصر الحديث سمات جديدة تشكل تحولا مهماً لمستقبل العلاقات الدولية، وبالأخص محاولات تقاسم مناطق النفوذ لمصادر الثروات الطبيعية وفي مقدمتها النفط. وفي هذا السياق تشابكت المصالح السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، بحيث اكتسبت أنشطة العديد من الشركات طابعاً وطنياً يرتبط بالمصالح الوطنية للبلدان التي تنتمي إليها هذه الشركات، وذلك بسبب الحجم الهائل للثروات التي تجنيها من استثماراتها الخارجية، إضافة إلى عدد الوظائف وحجم الضرائب التي تدفعها لبلدانها الأصلية. والجديد في هذا الأمر، هو أن شوكة هذه الشركات بدأت تقوى في استغلال مكانتها الاقتصادية، وبدأت التصرف كدولة تملك العديد من أوراق السياسة الدولية التي تتجاوز شؤونها التجارية، مثلما حدث مؤخراً من خلال دور شركة "bp" البريطانية في إطلاق سراح المعتقل الليبي عبدالباسط المقراحي من السجون الأسكتلندية بعد إدانته في تفجير طائرة "بان أميركان"، مما أثار غضب الإدارة الأميركية التي قررت، على ما يبدو، معاقبة الشركة البريطانية وربما العمل على تصفيتها من خلال توريطها في التسرب النفطي في خليج المكسيك منتصف العام الماضي، والذي تزداد الشكوك حول كونه عملاً مدبراً. هو التسرب الذي كاد يودي بكيان الشركة البريطانية بسبب التعويضات الكبيرة والمبالغ فيها والمقدرة بأكثر من عشرين مليار دولار. ثم بعد تسويتها رفعت الولايات المتحدة مطالب أخرى تتعلق بالحق العام، مما أدى إلى تدخل الحكومة البريطانية التي شمرت عن ساعدها للدفاع عن إحدى الشركات العريقة للتاج البريطاني. ولم يشفع لشركة "bp" كونها تنتمي لدولة حليفة للولايات المتحدة، إذ أن ما وقع لها سيكون درساً قاسياً للشركات الأخرى، كما سيفتح مجالات واسعة لشركات النفط الأميركية لتعزيز نفوذها، وربما الاستيلاء على موجودات الشركة البريطانية ذات الامتيازات الكبيرة، وضمنها ما حصلت عليه من ليبيا في إطار "صفقة المقراحي- لوكيربي". وبدورها قررت الشركة البريطانية التصعيد في مواجهتها مع الإدارة الأميركية، وذلك بعد دفعها للتعويضات المطلوبة واستقرار أوضاعها المالية واطمئنانها لمساندة الحكومة البريطانية، فاتجهت شرقاً نحو روسيا التي كانت تراقب الوضع عن كثب، باعتبارها أكبر منتج للنفط في العالم من جهة، وباعتبار أن الصراع يدور بين غريميها الحليفين من جهة ثانية، حيث رحب بوتين بالرئيس التنفيذي الجديد لشركة "bp" الأميركي الجنسية، والذي خلف رئيسها السابق البريطاني، في تغيير لا يخلو من دلالات ذات معنى. ويشكل ذلك تحديا قوياً للولايات المتحدة، حيث منحت روسيا الشركة البريطانية امتيازات مهمة في الجانب الروسي من القطب الشمالي، مما اعتبرته واشنطن تهديداً مباشراً لأمنها القومي وتجاوزاً للخلافات التي لم تحسم حول تقاسم الثروات في القطب المتجمد. والحال أن الأمور لن تقف عند هذا الحد، بل سوف تشهد تطورات مهمة وخطيرة ضمن لعبة "كسر العظم" بين القوة العظمى المهيمنة في العالم وبين شركة عريقة تمثل درة التاج البريطاني العجوز. حيث تعتبر هذه المستجدات ظاهرة جديدة في العلاقات الدولية في عصر العولمة، أي الصراع بين القوى العظمى والشركات القادرة على إدارة صراعها بإصرار وتحدٍ مثيرين الإعجاب. وبعد تمرد الدول على القوة الأعظم في العالم، جاء دور الشركات العالمية لتعبر عن امتعاضها من أساليب التعالي الأميركية ولترفع صوتها لتدافع عن مصالحها ومصالح بلدانها الحيوية ولتعلن مرة أخرى أن العالم يتغير وبسرعة نحو آفاق جديدة ونحو اصطفاف جديد لمراكز القوة في العلاقات الدولية. د. محمد العسومي