تتعرض مجتمعات وشعوب العالم قاطبة، لأوبئة متعددة الأشكال والأنماط من الأمراض المزمنة غير المعدية، والتي تتسبب حالياً في نسبة 60 بالمئة من الوفيات السنوية بين أفراد الجنس البشري. وهو ما يعني أن الأمراض المزمنة غير المعدية، تتسبب سنوياً في وفاة 35 مليون شخص، منهم 17 مليون وفاة مبكرة، يقع نصفها تحت سن السبعين، وثمانون بالمئة في الدول الفقيرة والنامية، وبالتساوي بين الذكور والإناث. وبين أنواع الأمراض المزمنة غير المعدية، تحتل زيادة الوزن والسمنة المفرطة، وداء السكري، وأمراض القلب، والأمراض السرطانية، وأمراض شرايين المخ، والانسداد الرئوي المزمن، أهمية خاصة. وفيما يخص زيادة الوزن مثلاً، يوجد أكثر من مليار شخص مصابين بزيادة الوزن حول العالم -بينهم 22 مليون طفل دون سن الخامسة- مع التوقع بأن يتخطى هذا العدد حاجز المليار ونصف المليار بحلول عام 2015 . أما أمراض القلب والشرايين، فتحتل رأس قائمة أسباب الوفيات دون منازع، حيث تعتبر القاتل الأول لأفراد الجنس البشري على الإطلاق. ففي العام الواحد يلقى أكثر من 17 مليون شخص حتفهم بسبب أحد أمراض القلب والشرايين، ما يمثل 29 في المئة من مجمل الوفيات العالمية سنوياً. وللأسف، يتوقع أن يزداد هذا الموقف سوءاً وتدهوراً بمرور الوقت، حيث يتوقع أن تزيد الوفيات الناتجة عن أمراض القلب والشرايين عن 23 مليون وفاة سنوياً بحلول عام 2030. وهو الوضع الذي يتطابق إلى حد كبير مع الأمراض السرطانية، والتي شهدت زيادة مطردة في معدلاتها خلال العقود القليلة الماضية، وفي الوفيات الناتجة عنها، بدرجة جعلت من هذه الأمراض السبب الرئيسي للوفيات بين أفراد الجنس البشري. لكن إذا ما نظرنا عن قرب، لعوامل الخطر المسؤولة عن الإصابة بالأمراض المزمنة، فسنجد أن أهمها هو الغذاء غير الصحي، وضعف النشاط البدني، وتدخين منتجات التبغ، وتعاطي الكحوليات... لدرجة أن التخلص من عوامل الخطر تلك، سيؤدي إلى خفض أمراض القلب، والسكتة الدماغية، والسكري من النوع الثاني، بنسبة 80 بالمئة، بينما ستنخفض معدلات الإصابة بالأمراض السرطانية بنسبة 40 بالمئة، وستنخفض الوفيات الناتجة عنها أيضاً، في ظل حقيقة أن تدخين التبغ -السبب الرئيسي لطائفة متنوعة من الأمراض السرطانية- يتسبب وحده في خمسة ملايين وفاة سنوياً. لكن فيما تنبع عوامل الخطر سابقة الذكر من سلوك شخصي غير صحي، لابد أن يتساءل المرء حول مدى مسؤولية الفرد عن الأمراض المزمنة التي تصيبه، مقارنة بمسؤولية المجتمع ونظم الرعاية الصحية إجمالاً؟ فعلى سبيل المثال، الشخص الذي أدى نهمه المفرط، وتناوله لطعام غير صحي، وعدم ممارسته للنشاط البدني، إلى إصابته بداء السكري، هل يجب أن يتحمل شخصياً تكاليف علاج مرضه ومضاعفاته، أو على الأقل جزءاًمحسوساً منه، أم أن هذه التكلفة يجب أن تقع على عاتق نظم الرعاية الصحية في الدول ذات النظام الصحي الحكومي القومي، أو على شركات التأمين الصحي في الدول التي تعتمد على نظام رعاية صحي يديره القطاع الخاص؟ في الحالة الأولى، أو نظم الرعاية الصحية الحكومية، يرفع علاج عدد كبير من الأشخاص المصابين بالأمراض المزمنة، من التكلفة الإجمالية للرعاية الصحية، ومن نسبة مخصصاتها من الناتج القومي الإجمالي، ولدرجة قد تعيق جهود التنمية، وتستنزف المصادر المالية الوطنية، مما يؤثر سلباً في النهاية على الاقتصاد الوطني، ويفقده قدرته التنافسية في المحافل الدولية. وحتى نظم الرعاية المعتمدة على شركات التأمين، ويديرها القطاع الخاص، تنعكس تكلفة علاج أعداد كبيرة من المصابين بالأمراض المزمنة على قيمة وثائق التأمين الصحي، وهو ما يؤدي في النهاية إلى عجز الكثيرين عن الحصول على التغطية التأمينية، ليظلوا بدون تأمين أو عون في مواجهة أمراضهم. هذا بالإضافة للتأثيرات الاقتصادية السلبية، المتطابقة مع التأثيرات التي تتعرض لها نظم الرعاية الصحية التي تديرها الحكومات. وإذا ما كان القانون والعرف، يعتبران أن تناول شخص لأطعمة غير صحية، أو تدخينه للتبغ، أو تعاطيه للكحوليات، هي سلوكيات شخصية تضمنها الحريات العامة، فلماذا إذن يكون على المجتمع ككل أن يتحمل عبء هذه السلوكيات؟ ولماذا لا تصبح تبعات تلك السلوكيات مسؤولية شخصية هي الأخرى، يتحمل تبعاتها من قام بها؟ فتعاطي الكحوليات مثلاً، يكلف الاقتصاد البريطاني أكثر من 25 مليار جنيه استرليني سنوياً، في شكل تكاليف رعاية صحية للأمراض والمضاعفات التي تنتج من الكحوليات، بالإضافة إلى تكلفة غير مباشرة في شكل حوادث وجرائم، وفقدان للإنتاجية، ووفيات مبكرة. وهو ما ينطبق أيضاً على تدخين التبغ، والذي يتسبب في عدد من الوفيات يزيد في محصلته النهائية عن إجمالي الوفيات التي يتسبب فيها الإيدز، والمخدرات، وحوادث الطرق، وجرائم القتل، وحوادث الانتحار، والمضاعفات التي تنتج عن الأدوية والعقاقير الطبية. فمن بين أكثر من ستة مليارات شخص، هم عدد أفراد الجنس البشري حالياً، يتوقع أن يقتل التدخين نصف مليار. لكن قبل أن يلقى هؤلاء حتفهم، غالباً ما يتلقون رعاية صحية لطائفة من الأمراض والعلل جراء قراراتهم الشخصية. هذه الرعاية الصحية، يقع جزء كبير من تكلفتها على كاهل غير المدخنين، وهو ما يحرم هؤلاء من أساليب حديثة لتشخيص وعلاج أمراض، لم يكن لهم ذنب في الإصابة بها، بعد أن أنفقت الميزانيات واستهلكت المصادر المالية، في تشخيص وعلاج أمراض نتجت عن سلوك شخصي غير صحي للآخرين. د. أكمل عبد الحكيم