من الأمور التي كانت تستأثر بخيالي دوماً، مشاهدة فيلم من الأفلام السينمائية العديدة التي كان يظهر فيها جدي الرئيس الأميركي الأسبق دوايت أيزنهاور. ومن أكثر تلك الأفلام استئثاراً بخيالي الفيلم الذي يصور خطاب الوداع للأمة الأميركية في 17 يناير 1961. وهذا الشريط السينمائي النادر بات يئن تحت وطأة القدم في الوقت الراهن بسبب تشغيلي له دوماً، لكي استمتع بهذا الخطاب التاريخي المهم الذي ألقاه في ذلك الحين من وحي الخاطر . كان عمري في ذلك الوقت تسع سنوات، ولذلك لم يتسن لي فهم أهمية ما قاله في ذلك الخطاب، كما لم أكن قادرة على التنبؤ بالتأثير الدائم والباقي للرسالة التي أراد توصيلها ولم يتحقق لي ذلك إلا بعد سنوات طويلة على ذلك التاريخ. ومن الأسباب التي تجعل الكثيرين يتذكرون ذلك الخطاب على وجه التحديد، ما تضمنه من تحذير عن صعود " المجمع العسكري – الصناعي" الذي وصفه جدي بأن هدفه هو التسليح الدائم وبأبعاد هائلة، وأن هناك احتمالاً لحصوله - سواء سعى لذلك أو لم يسع - على نفوذ غير مبرر، في أروقة الحكومة. وهذه التسمية، وهذا الوصف للمجمع، كان سبباً في الاهتمام البالغ به من جانب المثقفين والسياسيين والخبراء العسكريين، الذين درسوا المجمع الصناعي، وبحثوا في تفاصيله، وأعادوا دراسته وبحثه مرات لا تحصى بعد ذلك، وهو ما استمر حتى اللحظة الحالية - بعد مرور خمسين عاماً كاملة على إلقائه. وإذا ما ألقينا نظرة على الماضي من موقعنا الحالي، فسوف نجد أن المجمع العسكري -الصناعي قد توسع بدرجة رهيبة منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001. ففي خلال فترة تقل عن عشر سنوات، زاد إنفاقنا على الشؤون العسكرية والأمنية 119 مرة!. وقد نجد من يقول إن ذلك أمر طبيعي لأننا قد خضنا حربين كبيرين خلال تلك الفترة، هما حربا العراق وأفغانستان، ولكن حتى لو خصمنا الإنفاق العسكري على ذينك الحربين، فسوف نجد أن إنفاقنا قد ارتفع مع ذلك بنسبة 68 في المئة منذ العام 2001. وكان من المستهدف أن تنفق الولايات المتحدة على شؤونها العسكرية والأمنية عام 2010 مبلغاً يقدر بـ 700 مليار دولار وهو أكبر إنفاق عسكري في عام واحد على مدى تاريخ الولايات المتحدة . مع ذلك، نجد أن خطاب أيزنهاور الوداعي - حتى في الوقت الراهن الذي تواجه فيه الولايات المتحدة عجزاً مالياً وديناً قومياً - لايزال قادراً على اكتساب أبعاد إضافية. فطوال مدة رئاسته، كان أيزنهاور يربط دائماً بين القوة الاقتصادية لأميركا وبين قوتها العسكرية. وكان يرى أن السلامة المالية والقوة العسكرية هما الركيزتان الأساسيتان للأمن القومي الأميركي. ولكن أيزنهاور كان حريصاً مع ذلك ألا يتجاوز الإنفاق العسكري حده، أو أن يتضخم بصورة خطيرة كما هو حادث الآن. وكان السؤال الذي يسأله لنفسه دوما: ما هو المبلغ الكافي تماماً لتحقيق هذا الهدف العسكري أو ذاك؟ وأدرك جدي منذ فترة مبكرة من ولايته، أن الولايات المتحدة، كي تفوز في المواجهة مع الاتحاد السوفييتي، يجب أن تعد نفسها لخوض معركة طويلة، كما أدرك أن الحرب الباردة التي كانت الولايات المتحدة تخوضها في ذلك الوقت، لن تستغرق عدة سنوات كالحرب العالمية الثانية أو الأولى، وإنما ستستغرق عدة عقود. كانت التحديات والضغوط التي واجهها، أو تعرض لها، أيزنهاور خلال فترة ولايته هائلة. فمع تنامي القوة العسكرية للاتحاد السوفييتي، وتساويها تقريباً مع القوة الأميركية، تصاعدت أصوات القوى السياسية في واشنطن، مطالبة بزيادة النفقات الدفاعية، وتبني نهج أكثر هجومية ضد الاتحاد السوفييتي. ولكن جدي لم يرضخ لتلك الأصوات، وكانت الحجة التي يستند اليها دائما في إقناع المطالبين بذلك أنه "ليس هناك في هذه الدنيا شيء اسمه الأمن الكامل". وكانت العبارة المأثورة التي قالها ذات مرة في معرض الدفاع عن حجته:" إن المشكلة الأساسية في موضوع الدفاع هو إلى أي مدى يمكنك أن تمضي، وتواصل الطريق قبل أن تدمر من الداخل نفس الشيء أو الأشياء التي تسعى لحمايتها من القوة الخارجية". من هذا المنظور، تمكن أيزنهاور من ضبط الميزانية خلال فترة حكمه ثلاث مرات - مساواة الإيرادات والنفقات - وهو رقم قياسي لم يتحقق بعد ذلك طوال سني الحرب الباردة. وهناك خطاب مهم من خطب أيزنهاور، لم ينل حظه من الاهتمام مثل خطابه الوداعي، وهو ذلك الخطاب الذي ألقاه عقب وفاة الديكتاتور السوفييتي"جوزيف ستالين". في ذلك الخطاب قال إيزنهاور:"إن التسليح مسألة لا تتعلق بإنفاق المال فقط، وإنما تتعلق بإنفاق عرق العمال، وعبقرية العلماء، وآمال الأبناء أيضاً... ولكي نفهم ذلك يكفي أن نعرف أن ثمن القاذفة الحديثة الواحدة، يكفي لبناء مدرسة حديثة فيما يزيد عن ثلاثين ولاية أميركية، كما يكفي لإنشاء محطتي قوى كهربائية تخدم كل واحدة منها مدينة يبلغ تعداد سكانها 60 ألف نسمة. ويكفي كذلك أن نعرف أننا ندفع من أجل شراء مقاتلة واحدة مبلغاً من المال يعادل ذلك الذي ندفعه من أجل شراء نصف مليون بوشل من القمح ، وأننا ندفع من أجل شراء مدمرة حربية واحدة مبلغاً من المال يكفي لبناء منازل تتسع لـ8000 شخص...هــذه ليست طريقة للحياة على الإطلاق. كلما استمعت إلى كلمات أيزنهاور في خطاب الوداع، والخطاب الذي أشرت إليه، وغيره من الخطب التي ألقاها من بداية فترة رئاسته حتى نهايتها، كلما رن صدى تلك الكلمات في مسامعي، ومسامع الغير أيضاً قادماً عبر ضباب السنين ليذكرنا ـ وأقولها ببالغ الأسف ـ إننا يجب أن نعيد مطالعة صفحات تاريخنا لنتذكر شيئاً طالما حذرنا منه ذلك الرجل العظيم. سوزان أيزنهاور ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ حفيدة الرئيس أيزنهاور، وخبيرة الطاقة والشؤون الدولية، ينشر بترتيب خاص مع خدمة"واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"