اندلعت الانتفاضة التونسية في خضم الإنذارات الدولية بأن أسعار المواد الغذائية ارتفعت وتتجه إلى المزيد. ولم يتح لحكومة الرئيس التونسي المخلوع أن تنفذ تعليماته بخفض الأسعار، إذ أقالها قبيل رحيله، كما حلّ البرلمان، فيما انطلق أيتامه في الأجهزة البوليسية، العلنية منها والسرية، في انتفاضة فوضى ونهب وعبث وفساد، لتدافع عن مستقبلها ووجودها، لكن أيضاً على أمل عودته من غياب مؤقت. في الجزائر وموريتانيا والأردن، سجل استقبال واستيعاب سريعان للدرس التونسي. في بلدان عربية أخرى أشهرت اليقظة والحذر من ارتدادات للحدث، خصوصاً في اليمن. لكن العدوى التونسية برهنت في النهاية أنها ليست بشأن رغيف الخبز فحسب، بل إنها صارت قدراً محتماً عندما عزّ العيش الكريم فيما انعدمت الحريات فاختلّ التوازن تماماً. في الأيام الأخيرة كان على النظام أن يقتل ليبقى على قيد الوجود. أنباء تونس خطفت الأضواء من استفتاء جنوب السودان، وكذلك من تفاعلات الأزمة اللبنانية. أكبر بلد عربي مساحة ينسلخ عنه ثلث أرضه وربع شعبه. جنوبه يباشر انفصاله ليبدأ مسيرة طويلة لبناء دولته ومؤسساته. أما شماله فولج للتوّ في لجة أزمة نظام عميقة، فليس واضحاً إلى أي مدى سيبقى العسكر متماسكين بعدما انتهت عمليّاً حرب الجنوب وأصبحت المعركة الآن حول استقرار الشمال واستمرار وحدته. بعض الدارفوريين يطرح حق تقرير المصير، ومن غير المستبعد أن يحصل على اعتراف دولي به إذا لم تتضافر إرادة إقليمية ودولية لحل النزاع سياسيّاً على أن يبقى إقليم دارفور في كنف دولة الشمال. الشهور المقبلة صعبة في السودان. ثمة انطباع سياسي حاد بأن النظام الحالي أدى مهمته، وقد نال من المساندة الخارجية ما يكفي فقط ليسهل إجراء استفتاء الجنوب. بدءاً من الآن سيكون عليه أن يعتمد على نفسه، ولا يمكنه التصرف كأن انفصالاً لم يحصل، أو كأن هذا الانفصال لا يعني شيئاً، أو كأن العدوى لن تعتمل في الداخل كما في الجوار الأفريقي. لدى السودان سوابق وعوارض قد تجعل العدوى التونسية حافزاً لما اختزنه المجتمع السياسي من انتفاضة 1984. لكن هنا أيضاً يخشى مما خبأه النظام من أجهزة، معروفة محليّاً على أي حال، يستعين بها في اللحظة الحرجة لتمديد بقائه ولو من دون جدوى. قدم النظام التونسي نموذجاً احتذي في بلدان عدة. إذ قاد بلداً محدود الموارد إلى مراتب مرموقة في مؤشرات قياس النمو والازدهار لدى المؤسسات الدولية. ويتبين الآن واحد من أمرين: إما أنه يمكن خداع هذه المؤسسات باللعب على عناصر تقييماتها. وإما أنها أخطأت في التقدير عندما اكتفت بمراقبة حركة الاستثمارات ولم تأخذ مفاعيلها التنموية في الاعتبار. هذا أيضاً درس تونسي آخر، ولعله غير فريد في نوعه، لأن البنك الدولي مثلاً يعطي شهادات استحسان لأداء اقتصادات تعيش شعوبها أسوأ الأوضاع وتشهد توترات اجتماعية مقلقة. أما المؤسسات الدولية الأخرى فباتت أشبه بشركات علاقات عامة يتعاقد بعض الحكومات معها لمساعدته على تحسين صورته إما لمزيد من الاستدانة، أو لتبرير سلوكياته القاسية في ممارسة القمع والترهيب. والسؤال الذي يطرحه الحدث التونسي هو: هل يستقيم الانفتاح الاقتصادي من دون انفتاح سياسي، خصوصاً إذا كان معظم الموارد المحدودة يذهب في مسارب الفساد وفي تغذية القبضة الأمنية حماية للنظام؟ كان النظام السوداني ولا يزال يحيّر معارضيه قبل مواليه في كيفية تدبره المال الوفير وتحريكه لبعض المشاريع التنموية على رغم الحصار الدولي، والإنفاق على حروب داخلية. لم يكن النفط هو السبب، لأن الوفرة سبقته، وإنما حقيقة أن السودان -خصوصاً سودان الدولة- ليس فقيراً. في المرحلة المقبلة سيحتاج إلى مزيد من الموارد لإنماء مناطق أهملها النظام منذ فترة الاستقلال وتشعر منذ زمن بأن لديها مصلحة في البحث عن مصلحتها في مسالك أخرى، منها تقرير المصير. فعدوى الانفصال تؤذي أول من تؤذي في موضعها.