الملفت في الحالة التونسية الراهنة هو أنها من صنع محلي صرف، فجرتها عقود حكم القبضة الحديدية، وسنوات الكبت والحرمان، وإقناع الغرب، كما تثبت تسريبات ويكيليكس الشهيرة، بأن نظام بن علي بكل سجله المخالف لمبادئ الغرب هو السد المنيع أمام وصول الأصوليين إلى السلطة وحتى لا يصبح ذلك كرة ثلج تعم المنطقة بأسرها. فكان القبول وكان الاتفاق على دعم بن علي وحكمه والتغاضي عن التجاوزات. بل لقد أكد رؤساء فرنسيون أن النظام التونسي مثال يُحتذى، ولم يعترض الأوروبيون والأميركيون على ذلك. وإذا بابن علي يواجه مصير شاه إيران، حليف الغرب الأقوى. ومرة أخرى يتخلى الغرب عن حلفائه وترفض الدول الغربية التي وقفت معه وساندته حتى استقباله في مطاراتها دع عنك لقاء رؤسائها. فمتى يتعظ المتعظون؟ إن رحيل بن علي بعد أن حكم بلاده بقبضة حديدية بعد شهر من انتفاضة الجوع والغضب يدشن لعصر تونسي جديد مع خشية من انتقال فيروس الحالة التونسية على أجنحة البطالة والغلاء والجوع لترسم مشهداً مخيفاً في أكثر من دولة. ويُخشى اليوم من انتقال رسالة عدوى الانتفاضة الشعبية وتفاقم البطالة والاحتقان الاجتماعي واستشراء الغلاء إلى دول عربية تعيش شعوبها شظف عيش مؤلماً بلا أفق أو مستقبل يزرع الأمل في واقع أفضل. وكان ملفتاً انتقال العدوى إلى الجارة الجزائر ومسارعة بعض الدول إلى خفض الأسعار لدرء واحتواء وتجنب خطر قادم تلوح شرارته وقد تغير الكثير من المعطيات بعدما أشعلتها حالة التهميش والاحتقان، وتحولت مظاهرات البطالة وتردي الأوضاع الاجتماعية إلى مطالبات سياسية برحيل الحكومة والرئيس معاً. وبسرعة دخلت تونس نفقاً واضحاً بأبعاد سياسية واجتماعية خطيرة. ولم تجدِ نفعاً وعود الرئيس التونسي المخلوع الذي يرأس البلاد منذ عام 1987، بدعم الديمقراطية والحرية وبأنه لا رئاسة في تونس مدى الحياة، وكذلك الوعود بتوظيف عشرات الآلاف من العاطلين، وإقالة مسؤولين بما فيهم وزير الداخلية ومستشارون للرئيس، ووعوده بعدم الترشح في انتخابات 2014. والمخاوف باتت حقيقة اليوم من أن تُحّفز الحالة التونسية المهمشين والمحرومين لجيران تونس . ويُضاف إلى ذلك انزلاق وتفتيت ودخول أكثر من دولة حافة هاوية سحيقة ، بما يؤكد دخول الحالة العربية مرحلة فقدان التوازن الكلي، وكل ذلك يزيد المشهد العربي ضبابية وتعقيداً. وهكذا تزداد وتثخن الجراح في الجسد العربي المسجى على طاولة التشريح والتجزئة والتقسيم، وليتحول العرب إلى رجل المنطقة المريض بامتياز في وقت تمر فيه المنطقة بحالة غير مسبوقة من التغيير والجرأة والتحدي استفادة من ثورة المعلومات للرد على قمع السلطات واحتكار السلطة. وكان ملفتاً تحذير وزيرة الخارجية الأميركية الأسبوع الماضي في "منتدى المستقبل" في الدوحة للساسة العرب وتأكيدها الحاجة لتعزيز الإصلاحات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. إنها أجراس إنذار حقيقية تُقرع في المنطقة من أقصاها إلى أقصاها، بإرهاصات وتداعيات وتحديات قد لا يكون بمقدور الكثير من الأنظمة وقفها أو مواجهتها.