لم أكن أدري وأنا أغادر تونس قبل شهرين، أنها مقبلة على زلزال كبير بحجم التحول الجذري الذي حدث قبل يومين. بدا الوضع أوانها مستقراً، والحالة السياسية طبيعية على غرار مألوفها منذ مطلع التسعينيات. صحيح أن الصحف التونسية كانت تنشر يومياً عرائض طويلة من الطلبات الموجهة لبن علي للترشح للرئاسة في انتخابات 2014 ، مما يعني مراجعة الدستور للمرة الثانية لرفع قيد السن الذي يحول بينه والتقدم للسباق. ومع أن ترشح بن علي غدا أوانها محسوماً ونتيجته مضمونة سلفاً، إلا أن الخوف من المجهول والقلق تجاه المستقبل كانا حاضرين بقوة في المنتديات الخافتة وفي الدوائر الفكرية والسياسية التونسية على الرغم من ضيق هامش الحرية المتاح لها للتداول والنقاش. أذكر إنني سألت شخصية فكرية مرموقة على هامش زيارتي الأخيرة لتونس حول المستقبل السياسي للبلاد، ملمحاً بالخصوص إلى ما تردد من إشاعات كثيفة في الشارع التونسي حول صراع التوريث على السلطة داخل عائلة الرئيس. ذكرت لي الشخصية المذكورة إن تونس تعيش فترة قريبة من سنوات الرئيس السابق بورقيبة، على الرغم من الفوارق النوعية العديدة بين تجربتي الرجلين ووضع كل منهما الصحي ومحيطه العائلي. والمشكل الكبير كما يقول الصديق التونسي هو أن الخيار محصور بين الزوجة التي لا تخفي أطماعها في الحكم وزوج بنتها الذي يحضر منذ سنوات للخلافة، ولن يستقيم الأمر في الحالتين، مما سيدخل البلاد في أزمات داخلية عاتية. انهار النظام بسرعة لم يتوقعها أحد، بعد أسابيع ثلاثة من انتفاضة عفوية بدأت في مدن داخلية كانت تعتبر "هامشية"(سيدي بوزيد والقصرين) لتنتشر كالهشيم في عموم البلاد. بدت الأحزاب السياسية والتنظيمات الأهلية عاجزة عن ملاحقة إيقاع حركة التمرد والاحتجاج الجارفة، بما فيها المركزية النقابية التي تقود عادة الإضرابات العمالية. والواقع إن بن علي نجح في ما لم ينجح فيه بورقيبة من تقويض المجتمع السياسي بمختلف مكوناته، مما نجم عنه انهيار كل الوسائط المنظمة القادرة على تأطير الحركات الاجتماعية، فغدا في مواجهة مفتوحة مع كتلة الجمهور الهلامية العشوائية التي لا مركز لها ولا خطاب أيديولوجي أو حتى مطالب واستراتيجيات منسقة. فالمعروف أن التجربة البورقيبية التي صاغت نسق النظام السياسي التونسي المعاصر قامت على ركائز ثلاث هي :هيمنة الحزب الدستوري الذي ارتبط بحركة التحرير الوطنية منذ تأسيسه عام 1920 وقاد البلاد إلى الاستقلال، والزعامة الأبوية التي ترجمت دستورياً بنموذج المركزية الرئاسية المتحكمة بصفة مطلقة في دوائر القرار، والأيديولوجيا التحديثية العلمانية المستندة لتركة الحركة الإصلاحية التونسية والمتمحورة حول النهوض بالتعليم و"تحرير" المرأة. إلا أن بورقيبة الذي أعلن نفسه حاكماً مدى الحياة وضيق الخناق على خصومه السياسيين، من جناح حزبه المؤيد لمنافسه "بن يوسف"، الذي اغتاله في بدايات سنوات الاستقلال إلى الحركات اليسارية والقومية النشطة في السبعينيات إلى حركة "النهضة الإسلامية"، التي اعتقل قياداتها في أيام حكمه الأخيرة. إلا أن الحراك السياسي ظل نشطاً حيوياً طيلة العهد البورقيبي وأخذ في الغالب طابع الحيوية الفكرية والسجال الأيديولوجي عبر مسارب الصحافة والعمل الطلابي والجمعيات الأهلية، كما أن النظام لم يتمكن من تدجين "الاتحاد التونسي للشغل" رديف الحزب الدستوري التاريخي الذي أسسه فرحات حشاد الذي اغتالته السلطات الاستعمارية عام 1952. لم يكن لبن علي رصيد بورقيبة النضالي ولا ثقافته الواسعة المزدوجة، ولكن انقلابه على الزعيم المريض العجوز قوبل بفرحة عارمة من التونسيين، الذين سحرهم بيان السابع من نوفمبر الذي تقدم به الضابط الخجول الذي لم يعرفوه رجلًا سياسياً وإن خبروه مدير أمن في سنوات الرصاص. تعهد بن علي لشعبه بإلغاء الرئاسة مدى الحياة وفتح باب الحريات السياسية على مصراعيه والدفاع عن حقوق الإنسان. كنت مقيما في تونس أيامها، ولا زلت أذكر أفراح تلك المرحلة ووعودها الحالمة. بيد أن ربيع تونس الديمقراطي لم يدم طويلًا. تغيرت الأجواء بعد انتخابات 1989، وبرزت سمات العهد الجديد في ثوابته الكبرى. ولا شك أن بن علي نجح في تمرير صورتين داخلية وخارجية شكلتا "الأسطورتين المؤسستين" لما أطلق عليه الرئيس الفرنسي السابق شيراك "المعجزة التونسية": صورة رجل البناء والتحديث الذي أدخل تونس في نادي البلدان الجنوبية ذات التجارب التنموية الناجحة، وصورة الحاكم المستنير الذي بنى واحة الاستقرار والاعتدال في منطقة مهددة بالتطرف والفوضى. بالصورة الأولى استقطب أغلب وجوه اليسار التقليدي وأبرز مثقفي وأكاديميي تونس الذين رضي الكثير منهم معادلة "التحديث والتنمية بدون حرية"، وبالصورة الثانية استقطب القوى الغربية الكبرى. وبالتدريج استطاع بن علي القضاء على كل منافذ الحراك السياسي: حول الحزب الدستوري إلى واجهة للشبكة الأمنية– الإدارية لجهاز الحكم وأفرغه من رموزه التاريخية، حول المركزية النقابية المشتتة الصف إلى أداة طيعة، عطل عملياً رابطة حقوق الإنسان ونقابة المحامين اللتين هما الدعامة المكينة للمجتمع المدني التونسي، وادخل خصومه في ظلمات السجون القاسية. وعلى الرغم من الأرقام الفلكية التي دأبت المؤسسات المالية الدولية على التدليل بها على "النموذج التنموي التونسي"، إلا أن الفساد الذي بدا يدب في الاقتصاد التونسي تحول تدريجياً إلى قاعدة الاقتصاد وسمته المميزة، مما تسبب في أزمة مجتمعية خانقة حجبتها عن الأعين مظاهر التوسع العمراني والرفاهية الباذخة في بعض الأوساط المقربة من دوائر الحكم. من العصي في هذه اللحظات التي لا يزال التحول في بدايته التنبؤ بمستقبل تونس السياسي، بيد أن كل المؤشرات تدل على أن تشكل المشهد الجديد سيكون عسيراً وسيمر بمرحلة انتقالية طويلة. بيد أنه من المشروع الرهان على أن البلد الذي عرف منذ منتصف القرن التاسع عشر أول دستور ليبرالي في العالم العربي قادر على استكمال وعود التغيير الديمقراطي.