على بعد أمتار قليلة من مكان انعقاد أحد المنتديات الفكرية العربية كانت أفراد جمهرة من مواطني البلد الذي استضاف (كوكبة) من مفكري العالم العربي، يرفعون لافتات لا علاقة لها بالترحيب بالمؤتمر، بل إنهم لا يعلمون بأن محاور و"ورش" عمل فكرية تُعقد بالقرب منهم، كانت تلك الجماهير تطالب بخفض تكاليف لقمة العيش، وأن يكون السكر والشاي والزيت والخبز في متناول محافظ جيوبهم الخاوية تقريباً. علت أصوات المحتجين لتغطي على نقاشات المؤتمر المجاور الذي كانت فعاليته تدور حول إشكالية الأنا والآخر والتباسية العلاقة بين السلطة والمثقف، وأزمة الترجمة في العالم العربي، وبين أزمة وإشكالية فكرية أخرى يعالجها المؤتمر الموقر، تُستقطع أوقاتٌ لتوزيع الدروع على من سبق وحصل عليها عشرات المرات، تقديراً لإسهاماته في الكشف عن النـزعة العنصرية عند الجاحظ من خلال كتابه "البخلاء"، أو في دراسة أثر البيئة السياسية على شعر أبي الطيب المتنبي. وكأن هؤلاء العلماء الأفاضل يعيشون في كوكب آخر، يتنقلون بين منتدى فكري وحلقة نقاش أدبي ومؤتمر ثالث يهدف لفض النـزاع بين الفلسفة في العالم العربي والمؤسسة الدينية! استعرضتُ ما سبق وأن أقيم من ندوات فكرية -لا العلمية التطبيقية- في باريس ولندن في عام 2009 مثلاً، فوجدت أن مدناً عربية معينة شهدت لقاءات كهذه أكثر بكثير من تلك التي شهدتها بلاد الأفرنج المتقدمين حضاريّاً علينا بقرون، ومع هذا فلا يظن أحد أن ذاك دليل على حراك أكثر هنا وثبات هناك، فالواقع أن النقيض هو الصحيح. هناك في شمال العالم وفي أقصى غربه وشرقه، تُعقد ندوات تخصصية في الجامعات ودور البحث والدراسات الاستراتيجية، ويكون الشأن مدار البحث أكثر دقة في المفاهيم والمصطلحات.. والغايات: عن الوضع في العراق، أو العلاقة بين الإسلام والغرب، أو مستقبل الحكم في أفغانستان أو الحريات في العالم العربي وعلاقتها بالتطرف الديني.. الخ؛ والأهم من كل ذلك هو أن قائمة المدعوين للحديث ولإثراء النقاش مدار البحث، هم أهل خبرة عالية وأصحاب تجارب واسعة وخلفيات علمية ودينية ودبلوماسية، أما التوصيات والاقتراحات فتذهب مباشرة إلى صُناع القرار في باريس ولندن وواشنطن وموسكو وبرلين وطوكيو.. ويعمل بها. قبل شهور وفي بلد عربي قصي حضرتُ ندوة عن تأثير العولمة على اتجاهات الرأي لدى الأجيال الشابة العربية، وحانت مني التفاتة لأحد المثقفين كان يجلس بجواري، وكنت أريد أن أطرح عليه سؤالاً عابراً، لكن محاولتي باءت بالفشل لأن الصديق كان يغط في نومٍ عميق، الرجل معذور -في رأيي- فهو للتو عائدٌ من مؤتمر ناقش في بلد عربي غير بعيد قوانين الحماية الفكرية في العالم العربي، وقبل ذلك كان يتواجد في بلدٍ يتحدث بلغة الضاد عقدت فيه ندوة عن تراث "ابن رشد" الفلسفي. جاري المثقف كان يحمل على كتفيه ثمانين عاماً هي عمره وكماً هائلاً من الأوراق والمداخلات وأوراق العمل غير المتوافقة، ومن غير المستغرب أن أراه يغط في سُبات أهل الكهف بعد كل تلك الساعات من الطيران وأحمال العمر والكلمات الفكرية المتقاطعة. وحالة هذا المثقف المتعب تعكس حال مؤتمراتنا العربية، وتُبين مدى الفروق بيننا وبين حلقات نقاش العوالم المتقدمة الأخرى. هنا يُطرح سؤال مهم: لماذا إذن كل هذا الحراك الفكري والثقافي الذي يبدو ظاهريّاً أنه فاعل على الساحة الواقعة بين الخليج والمحيط؟ لا تخلو النيات الصادقة أن توجد عند بعض القائمين على المنتديات والمؤتمرات الثقافية والفكرية، ولا يخلو الأمر كذلك من الاعتراف بأن بعض اللقاءات الدورية للمثقفين تعود بفائدة وإن بقدر محدود، ولكن ليس بالنيات وحدها يمكن جعل ما يقال في قاعات الفنادق نافعاً لبلاد تشكو منذ أزمان (ولا زالت) وستظل على الأرجح من الأمية بشكلها القديم، والأمية الثقافية، ومن نسب عالية من الفقر والبطالة والحرمان وتشتت في الخيارات وبحث متعثر للهويات وعلامات المستقبل. وإن أخذنا صفاء النية كأحد دوافع هذا الكم الكبير من المنتديات وورش العمل الفكرية في عالمنا العربي، وهو دافعٌ غير منتج في محصلته النهائية، فإننا نجد دوافع أخرى غرائبية تُنجز كل ذاك الحراك العبثي والمشابه لنوم الصديق المثقف في ندوة البلد العربي القصي. خذ مثلاً: إشعار الآخرين بأن شيئاً ما يحدث في بلد لا يتحرك فيه شيء تقريباً، ولنُعطِ مقاربة لما نقول: والعراق ينجر مع إيران في حربٍ طاحنة عبثية امتدت من سنة 1980 وحتى 1988، خطر على بال صدام أن يقيم سرادقاً ثقافيّاً أسماه "مهرجان المربد الثقافي"، وكان يأتي لهذا المنتدى صفوة من الشعراء والأدباء والمثقفين العرب ليمدحوا أولاً وحتى تاسعاً عبقرية القائد، وليأتي عاشراً الحديث عن الهم الثقافي العربي والإسلامي، شرط ألا يأتي الحديث على حرية التعبير التي هي خطوط حمراء في مكان انعقاد المنتدى وحين تُوزع الهبات والهدايا. ما كان يحدث هو أشعار ما حول العراق من الفضاء العربي والإقليمي، بأن بلاد الرافدين وبوابة العرب الشرقية تعج بحراك ثقافي غير مسبوق أيامها، وأن صفوة النخب الثقافية العربية تسكن ولمدة أيام فندق الرشيد، لكن الواقع كان يقول: إن كتاباً واحداً لم يكن يُطبع ويُنشر في بغداد، إلا الكتب المدرسية والكتب التي تمجد القائد وعبقريته الاقتصادية والسياسية والعسكرية.. ولا شيء غير ذلك، لا عن الحرية الإنسانية ولا عن الشورى والديمقراطية وحقوق الإنسان، ولا عن السلم الأهلي ومخاطر الحروب، ولا حتى تاريخ وعبر سقوط الأمم وأسباب ذلك عند "توينبي" أو حتى ابن خلدون أو أي اسم آخر! كان الكلام الثقافي مباحاً حول كل شيء سوى ما ذُكر سابقاً من المحرمات و"التابوهات"، وعقابها إن كنت عراقيّاً (السحل)، وإن كنت غير ذلك الحرمان من المنتدى.. إن استطعت الخروج من البوابة الشرقية سالماً. وهناك دافع آخر: اشتغال المثقفين والنخب الفكرية بكل ما يلتصق بطقوس المنتديات العربية الثقافية من ترف نسبي، بدايةً من استقبال مميز، وإقامة ماتعة في فنادق الخمسة نجوم، ومطاعم ومشارب كريمة، مقابل ورقة عمل يحدد لها ربع ساعة، أو مداخلة سرعان ما تتم مقاطعتها، ولا تثريب على المثقف المتعب والأمر كذلك من أخذ غفوة عميقة بين كل هذا "الحراك" الثقافي كما هو حال جاري في ندوة البلد العربي القصي، وكل ذلك يحدث على حساب المهمة الأولى للمثقف ألا وهي الكشف عن هموم الأمة ومحاولة المساعدة.. ولو عن طريق الحبر ونقر "ماوس" الكمبيوتر. يبقى دافعٌ جانبي ثانوي: ألا وهو تلك الرغبة الجامحة عند البعض في أن يأخذ برقاب الشأن الثقافي، كما يدير شركته أو محيطه الإداري أو شأنه الاجتماعي والاقتصادي وما إلى ذلك من اهتمامات صاحب المنتدى كثير المشاغل، الذي يتعجب الإنسان من الوقت الذي يستطيع أن يجده بعد كل تلك المشاغل والهموم والمهام، لتأسيس منتدى أو ندوة فكرية ثقافية كل عام أو نصفه؛ ولينظر القارئ إلى ما فعله "بيل جيتس" عندما خصص أكثر وقته وجُل ماله للأعمال الخيرية التي تساهم بها مؤسسته لدعم الإنسانية بالشراكة مع رجال أعمال آخرين، وليقارن هذا بما يحدث في عالمنا الثقافي العربي، حين يفتتح صاحب المنتدى أعمال جلسات حلقات النقاش، بعد أن جاء للتو من اجتماع خدمي لا علاقة له بالثقافة على الإطلاق. ... الألف منتدى، زاد واحد قبل ساعات، فها أنا أتلقى مثل غيري دعوة مكتوبة لحضور جلسات المنتدى الربيعية، وفي أحد أيامه -المهمة- سيتحدث جاري المثقف الذي غط في نومه العميق بجواري قبل شهور قليلة!