أخيراً دقت ساعة الحقيقة، وحدث في تونس ما لم يكن في الحسبان. فقد تسارعت التطورات متلاحقة، وكانت أسبق من رهانات "اللعبة السياسية"، أو بالأحرى طرفها الرئيسي متمثلاً في السلطة السياسية الحاكمة، والتي تهاوت على نحو دراماتيكي فاجأ الجميع! وفي هذا الخضم الذي صنعته صيحات الجموع المحتجة، وأدخنة مسيلات الدموع، ورصاص قناصة البوليس، ودماء الضحايا في الساحات والميادين... غادر بن علي قصر قرطاج بعد أن شغله 23 عاماً يعدها التوانسة دهوراً طويلة من أعمارهم وفي تاريخ "إفريقية" العريق. ورغم أشواقهم العميقة للديمقراطية، فقد أوضحت حالة الفلتان التي أعقبت انسحاب الأجهزة الأمنية من المشهد، أنه يستحيل بناء الديمقراطية في ظل الفوضى، وأنه عملياً لا مجال للانطلاق من الصفر، لذلك بدا مقبولاً للبعض أن يتم الاحتفاظ مؤقتاً بالحكومة "القائمة"، لاسيما وأن الحياة السياسية التونسية تعرضت خلال ربع قرن لعملية إفراغ وتجفيف شاملة أفقدتها الكثير من القيادات؛ سجناً أو نفياً أو قتلاً. وفي مساء يوم الجمعة أعلن الوزير الأول محمد الغنوشي تسلمه مقاليد الأمور مؤقتاً في البلاد، لكن بعد أقل من عشرين ساعة قرر المجلس الدستوري إسناد رئاسة البلاد بالوكالة لرئيس مجلس النواب فؤاد المبزع، والذي أدى اليمين الدستورية، متعهداً بإجراء انتخابات رئاسية خلال ستين يوماً، وأصدر تكليفه للغنوشي بتشكيل حكومة وحدة وطنية على وجه الاستعجال. فالأوضاع في تونس لا تحتمل أي تأخر في استعادة النظام والسلطة، وستكون الأيام القادمة حاسمة لجهة الشروع في التأسيس لمرحلة ما بعد بن علي. فمن هو رئيس تونس الجديد؟ وماذا عن ماضيه؟ وكيف يُنظر إليه في أوساط الشعب ودوائر النخبة؟ فؤاد المبزع أحد الساسة المخضرمين في تونس، وربما أكثرهم دراية بملفاتها الداخلية والخارجية، إذ تقلد مناصب وحقائب وزارية في عهدي الجمهورية الأولى (بورقيبة) والثانية (بن علي)، وعمل إلى جانب ستة رؤساء وزارة، وتولى أكثر من مهمة في الدبلوماسية الخارجية لبلاده. وينظر إلى المبزع، الرجل الهادئ، صاحب الشوارب الكبيرة والطلعة الوقورة، والبالغ من العمر 78 عاماً، على أنه أحد الوجوه التي تمثل أصالة تونس العاصمة وانفتاحها الثقافي في آن معاً؛ فقد درس في المدرسة الصادقية التي أسسها خير الدين التونسي كأول مدرسة ثانوية عصرية في تونس جاءت لتعاضد المدرسة الزيتونية في نشر العلوم، وتخرجت منها قيادات تونسية بارزة، مثل بورقيبة، وأحمد بن صالح، ومحمد مزالي، ومحمود المسعدي... وثمة حالياً "جمعية قدماء الصادقية" التي يرأسها المبزع نفسه. وبعد نيله شهادة البكالوريا من الصادقية، سافر المبزع إلى فرنسا حيث درس القانون والاقتصاد في جامعة باريس الأولى وتخرج منها في منتصف الخمسينيات، وكانت فترة مضطربة في تونس؛ فبداية من عام 1951 اندلعت انتفاضة مسلحة ضد سلطات الاحتلال الفرنسي، ووُجهت باعتقال العديد من زعماء البلد وقادة الحزب الدستوري، وعلى رأسهم بورقيبة، والمنجي سليم، ومحمد شفيق، وصالح بن يوسف... وبفرض الأحكام العرفية، لكن العمليات المسلحة أخذت تتصاعد إلى أن أقرت فرنسا رسمياً باستقلال تونس في مارس 1956. وبعد الاستقلال، نشط المبزع في الاتحاد العام لطلبة تونس، كما ترأس بين عامي 1964 و1965 الجامعة التونسية لكرة القدم، ثم شغل عدة وظائف رسمية، قبل أن يصبح مديراً للأمن الوطني عام 1965، وهو منصب حساس سيمثل فيما بعد منصة انطلاق لبن علي نحو كرسي الرئاسة. لكن المبزع لم يمكث في المنصب طويلاً، حيث ترأس بلدية تونس العاصمة بداية من عام 1969 ولغاية عام 1973 عندما عُين وزيراً للشباب والرياضة في حكومة الهادي نويرة، ثم كلف في سبتمبر 1978 بوزارة الصحة، وفي نوفمبر 1979 بحقيبتي الشؤون الثقافية والإعلام، حيث احتفظ بالثانية حتى ديسمبر 1980، وبالأولى حتى يناير 1981، وذلك في حكومة مزالي. وفي أكتوبر 1987 تولى مجدداً حقيبة الشباب والرياضة في آخر حكومة خلال عهد بورقيبة، وكانت برئاسة بن علي. أما بعد إطاحة الأخير ببورقيبة، فبقي المبزع في منصبه حتى يوليو 1988. وإلى ذلك فقد عمل المبزع مندوباً دائماً لتونس لدى الأمم المتحدة بين عامي 1981 و1986، ثم سفيراً لها بالرباط في الفترة بين 1986 و1987. ورغم استبداله بالدكتور حمودة بن سالم في حكومة الهادي البكوش عام 1988، فإن النظام لم يكن ليفرط بسياسي دؤوب ومتزن مثل المبزع، إذ أسند له رئاسة بلدية قرطاج عام 1995، وهي ضاحية للعاصمة تونس وفيها قصر الرئاسة. فالمبزع هو أحد أبناء "الحزب الاشتراكي الدستوري" القدامى، وقد أصبح عضواً في ديوانه السياسي عام 1974، قبل أن ينال العضوية نفسها في وريثه "التجمع الدستوري الديمقراطي". كما يعد أحد أكثر قادة الحزب شعبية انتخابية داخل تونس العاصمة، حيث انتخب نائباً عنها في البرلمان سبع مرات في أعوام 1964، و1974، و1979، و1994، و1999، و2004، و2009. وفي بداية المدة النيابية التاسعة عام 1999، انتخب على رأس غرفة النواب خلفاً للحبيب بولعراس، وتم التجديد له على رأس المجلس في عامي 2004 و2009. وخلال مسيرته الطويلة، لم يعرف عن المبزع أنه تورط في أعمال فساد واضحة أو إساءة استخدام للسلطة، أما خلفيته الأمنية فتعود إلى فترة قديمة نسبياً. وإن قيل إنه خدم نظام بن علي، وإن الأخير ولّاه رئاسة الهيئة التشريعية التي كانت تصدر كل القوانين المتهمة بتكريس النظام الاستبدادي... فربما يجدر بالقول أيضاً إن بن علي وقبله بورقيبة، إنما كانا يسندان إلى المبزع وزارات فنية بالأساس، مثل الشباب والرياضة والصحة... لإضفاء توازن جهوي على حكوماتهم ذات الطابع الساحلي دائماً، إذ كان من شأن وجود المبزع، كأحد أبناء تونس العاصمة، إضفاء ذلك التوازن المفتقد! وأياً يكن الموقف من ماضي المبزع وخلفياته الحزبية والأمنية، فإن الأنظار في تونس، وخارجها أيضاً، تتجه الآن إلى ما هو آت خلال الستين يوماً القادمة: هل يتوقف الانفلات الأمني أولا؟ وكيف تتشكل حكومة الوحدة الوطنية؟ وماذا عن مصير "التجمع الدستوري الديمقراطي" وكبار قادته؟ محمد ولد المنى