انتقاد واسع لموقف باريس من الأزمة التونسية... وزعيمة متطرفة جديدة لـ"الجبهة الوطنية" تداعيات الموقف من الأزمة التونسية في فرنسا، وتولي مارين لوبن زعامة حزب "الجبهة الوطنية"، وعرض حركة "إيتا" الباسكية وقف إطلاق نار دائم، موضوعات استقطبت اهتمام الصحافة الفرنسية، يوم أمس. فرنسا وأزمة تونس انتقد معظم كُتاب افتتاحيات الصحف الفرنسية الصادرة يوم أمس (السبت) طريقة استجابة باريس للأزمة التونسية التي تكشفت مساء أول من أمس (الجمعة) عن انهيار نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي، نتيجة لما سمته بعض الصحف "ثورة الياسمين" التونسية. في افتتاحية صحيفة ليبراسيون انتقد الكاتب لوران جوفرين عهد بن علي، الذي خلف بورقيبة في حكم تونس، وتأدى به النهج السياسي، وتدافع الأحداث، إلى أن يصبح خلال الثلاث وعشرين سنة التي أمضاها في السلطة، واحداً من أقل نظم المنطقة مرونة وانفتاحاً. وفي النهاية وجد نفسه مضطراً للرحيل بفعل ثورة شعبية عارمة، ضد قساوة الظروف، وعدم تكافؤ الفرص، والممارسات السلطوية القمعية. واليوم بعد سقوط نظام بن علي، تتجه الأنظار في فرنسا إلى أولئك الذين دعموه بكل الوسائل بحجة ودعاوى "السياسة الواقعية"، ليظهر غباء خياراتهم الآن، وليتعين عليهم، في النهاية، تقديم تفسير مقنع للكيفية التي تهاوى بها ذلك النظام الذي طالما راهنوا عليه، كيف انهار بهذه السرعة وكأنه قلعة من ورق. ولا يبتعد أيضاً عن هذا الاتجاه في التحليل جان- ميشل هلفيج في افتتاحية "لاربيبليك دوبيرينبه" الذي قال شامتاً إن أهداف "الثورة التونسية تحققت أخيراً دون فرنسا، أي فرنسا قصر الأليزيه، ووزارة الخارجية التي تنطعت وزيرتها عارضة دعمها ومساعدتها "الأمنية" على الرئيس المخلوع بن علي لتقوية قبضته في وجه العاصفة. وما يصدق على وزيرة الخارجية، يصدق أيضاً على غيرها من مسؤولين كبار، بل إن ساركوزي نفسه تلفع بالصمت المطبق كل هذه الفترة. يا للموقف المخجل، يقول الكاتب، فقد أخفقت باريس في أن يكون لها موقف مناسب من هذه الثورة. وذات الشعور بـ"الخجل" من الموقف الفرنسي نجده أيضاً في افتتاحية الكاتب جاك كامي في "لا ربيبليك دي سانتر"، الذي انتقد بشدة النظرة المحايدة شديدة السلبية التي تسمرت عليها فرنسا، طيلة الأزمة، وحتى في ما قبل الأزمة. ومن جانبها اعتبرت افتتاحية صحيفة لومانيتيه أن التونسيين "كسروا قيودهم، وقد سالت الدماء مجدداً، واختلطت بمعسول الكلام غير المتحقق، لينتج من تفاعل ذلك كل هذا الغضب العارم". وأخيراً جاءت افتتاحية صحيفة لوفيغارو تحت عنوان "مرحلة انتقال سياسي حرجة"، حاول كاتبها، استشراف عنوان المرحلة المقبلة في تونس، بعد رحيل بن علي، معتبراً أن رئيس المرحلة الانتقالية سيحتاج إلى كثير من الصبر وبرودة الأعصاب لاستعادة الاستقرار إلى الشوارع والدفع إلى حوار عام بين مختلف مكونات النسيج السياسي والاجتماعي في تونس، وذلك لأن النظام السابق ترك البلاد في حالة احتقان ملتهبة، ووسط مشهد سياسي تنقصه كل مقومات التفاهم والتناغم، وغابت عنه لزمن طويل تقاليد التعددية والحوار والانفتاح. وأخيراً جاءت افتتاحية لوموند ليوم أمس تحت عنوان "في تونس، أمل في مسار انتقال ديمقراطي"، وتساءلت في بدايتها: هل سنرى عما قريب "معجزة تونسية"؟ وهل سيتحقق انتقال سلطة ديمقراطي سلمي، في ذلك البلد المعروف بانفتاحه وتسامحه وحكمته؟ هذان هما سؤالا المرحلة الآن في بلد الذي أدت فيه انتفاضة شعبية، لأول مرة في العالم العربي، إلى إسقاط نظام سياسي قاس، وقابض بيد من حديد. والحقيقة أن ما سيجري في تونس خلال الأيام المقبلة يتجاوز مصير البلاد نفسها، التي شهدت يوم الجمعة الماضي تهاوي نظام بن علي، كما تتهاوى قلاع الورق والرمال. "توريث"مارين لوبن استباقاً للإعلان عن تولي مارين لوبن زعامة حزب "الجبهة الوطنية" يوم أمس (السبت)، بدلاً من والدها الطاعن في السن، رصدت صحف باريس مسار حزب اليمين المتطرف، والآفاق المتوقع أن تكون على رأس أجندة زعيمته الصاعدة. صحيفة ليبراسيون قالت في افتتاحية خصصتها لهذا الحدث إن حزب "الجبهة الوطنية" تحول من تشكيل سياسي هامشي، في نهاية السبعينيات، ليصبح مع مرور العقود والسنين رقماً حاضراً بقوة في المعادلة السياسية الفرنسية، إلى حد جعله يصل الشوط الثاني من رئاسيات 2002. ولعل مما زاد من شعبية "الجبهة" في صفوف جمهور اليمين الفرنسي، أن خطابها الذي كان في البداية يصنف ضمن نزعة اللاسامية، والعنصرية، تعرض مع مرور الوقت إلى تعديلات، وترسخ فيه القبول بقواعد اللعبة الانتخابية والابتعاد بشكل ملحوظ عن أساليب العنف والعدمية. ومع ذلك ظل الموقف الشعبي العام من لوبن واللوبينية سلبيّاً على أقل تقدير. واليوم بعد خمسين سنة من الحياة السياسية يتنحى لوبن الأب ليحيل زعامة "الجبهة" إلى ابنته مارين التي دخلت أصلاً إلى المشهد بتصريحاتها العنصرية المعادية للإسلام، ولصلاة المسلمين في الفضاء الفرنسي العام! وتذهب الصحيفة، أخيراً، إلى أن تنامي حضور حزب لوبن ما كان له أن يقع لولا فشل الطبقة السياسية الفرنسية في إنتاج استجابات كفيلة بحل المشاكل التي تعاني منها البلاد، وهي مشاكل غير عصية على الفهم، بل واضحة ومكشوفة في ضوء تحديات وعواصف عصر العولمة. وفي هذا المقام دعمت الأفعال والقدرة على المبادرة، حتى في الاتجاه السيئ، مواقف لوبن وجعلته يستقطب قطاعات من ناخبي اليمين. ولكن الحقائق هي ما ما أعاقه في النهاية، وهي ما سيعيق أيضاً ابنته، بعد تسلمها "المشعل" في عملية "التوريث". أما افتتاحية صحيفة "لاكروا" ليوم أمس، فقد توقعت تعرض اليمين المتطرف خلال المرحلة المقبلة لحالة تحول جذرية، يتوقع أن تغير وجهه بشكل كامل. وبهذا سيقع عكس ما توقع لوبن، الذي حرص على توريث ابنته، لضمان نوع من "الاستمرارية" لسلالته السياسية المتطرفة. وثمة كثير من المؤشرات على أن "الجبهة" بصدد عملية "عصرنة" وإحلال لخطابها، حيث يتوقع على نطاق واسع أن تترك لاسامية لوبن الابن، مكانها لإسلاموفوبيا لوبن الابنة، مع كل ما يعنيه هذا التحول من تهور وتردٍّ في الرطانة والخطاب من سيئ إلى أسوأ. ومع ذلك فإن فرص الحزب في تجاوز هوامشه الانتخابية القزمية في جميع الاستحقاقات تتلاشى مع الزعيمة الجديدة، لأن موقف أغلبية الفرنسيين الساحقة من العنصرية والكراهية ما زال على حاله، ولذا فإن مارين لن تمضي بعيداً في اكتساح المشهد السياسي، على رغم علو سقف خطابتها المتطرفة. فخ "إيتا" حلل الكاتب بيير روسلين في افتتاحية لصحيفة لوفيغارو دلالات إعلان وقف إطلاق النار النهائي الذي أعلنت عنه حركة "إيتا" الانفصالية الباسكية، مشيراً إلى أن الحكومة الإسبانية تعاملت مع هذا الإعلان بقدر كبير من الحذر، وذلك لأن الأمر يتعلق بما سمته المنظمة الإرهابية "وقفاً لإطلاق النار"، كما لو أن استخدام القوة والعنف يمكن أن يكون مبرراً أصلاً. وبدلاً من ذلك كان يمكن للمنظمة الإعلان صراحة، ودون قيد أو شرط، عن تخليها الكامل والنهائي عن العنف والإرهاب اللذين لطالما وظفتهما لتحقيق أغراضها الانفصالية. والحقيقة أن عدم الثقة في المنظمة حالة عامة في إسبانيا التي شهدت كلها أعمال التصفية والقتل التي دبرتها المنظمة الانفصالية طيلة السنوات والعقود الماضية. والأرجح أن "إيتا" أيضاً مكرهة لا مختارة في مبادرتها الأخيرة، حيث تم تضييق الخناق عليها بشكل غير مسبوق من قبل الشرطتين الإسبانية والفرنسية، وكذلك قلب لها الرأي العام الباسكي ظهر المجن ولفظها بشكل حاسم. ويبدو أن نهاية الحركة باتت قريبة، ولذا فلا مجال للدخول في مفاوضات مع إرهابيين يبحثون عن طوق نجاة أخير. ثم إن عرض وقف إطلاق النار قدم بطريقة استعراضية مسرحية، وكان الهدف منه دفع الحكومة الإسبانية إلى فتح حوار مع الحركة بما يسمح لها بالمشاركة في الانتخابات البلدية المقررة في مايو المقبل. والمفارقة أن هنالك من يريد إعطاء أهمية لهذا العرض، وتدويله، من خلال إشراك المجتمع الدولي في وضع آليات للتحقق من سريان وقف إطلاق النار. وهذا فخ مكشوف، يقول الكاتب، لا أعتقد أن إسبانيا، أو فرنسا، ستقعان فيه. إعداد: حسن ولد المختار