تسارعت الأحداث في الأيام الأخيرة في لبنان، أثر الإعلان عن انسداد الأُفق أمام المبادرة السعودية السورية لمعالجة التوتر السياسي المتمادي منذ نحو خمسة أَشْهُر. وقد بدأ الأمر بخطاباتٍ متلاحقةٍ لنصرالله منذ الصيف الماضي، بدأت بالتظلُّم من المحكمة الدولية، باعتبار أنه أُبلغ أنّ القرار الظني لها سيتناولُ بالاتّهام أفراداً من "حزب الله". ثم وصل به الأمر إلى اعتبار أنّ إسرائيل هي التي قتلت رفيق الحريري، أو أنّ هناك احتمالاً كبيراً بذلك، وقد تجاهَلت المحكمةُ هذا الاحتمال، كما تجاهله التحقيقُ الدولي من قبل؛ وهذا يعني أنّ هناك مؤامرة دوليةً على المقاومة لن تسمح لها بالمرور. وقد ردَّ الحريري على الاتهامات التي بدأت تنال منه ومن معسكره بأنّه لا يتّهم طائفةً ولا حزباً كما لا يتّهم المقاومة، وهو مستعدٌ للقيام بكلّ ما يلزمُ لتجنُّب الفتنة بين السنة والشيعة، لكنه لن يتخلَّى عن المحكمة ولا يستطيع ذلك. وجاء الملك عبدالله بن عبدالعزيز وقتَها إلى لبنان مع الرئيس الأسد، وتكثّف الحديث عن التواصل، والمبادرة السعودية السورية لإحداث توافُقٍ داخليٍّ يتجاوز التوتُّر. وإثر إحدى زيارات الحريري لدمشق، صدر عنه بيانٌ أو مقابلة، نُشرت بصحيفة "الشرق الأوسط"، وقد اتّهم فيها "شهود الزور" بتضليل التحقيق وتشويه الحقائق، بحيث جرى اتهام سوريا بقتل والده، وهو يأسفُ لذلك. إنما بعد أيامٍ خرج اللواء السيد، مدير الأمن العام السابق، متَّهماً كلَّ مَنْ حول سعد الحريري بتركيب شهود الزور، الذين تسبَّبوا بسجنه وسجن زملائه لسنوات، وقد قدَّم دعوى لمحاكمتهم في سوريا، لأنّ القضاء اللبنانيَّ لم يقبل دعواه، وكذلك المحكمة الدولية. وتلا ذلك قبول القضاء السوري دعوى اللواء، وإصدار مذكّرات إحضار بحقّ 33 منهم، ومعظمهم من محيط الحريري. وعندما لم تجر الاستجابة، صدرت بحقّ هؤلاء من سوريا مذكّرات جَلْبٍ واعتقال. ومنذ ذلك الحين دأب ممثلّو تحالُف 8 آذار على المطالبة بمحاكمة شهود الزور في لبنان عبر قرارٍ بتحويلهم إلى المجلس العدلي. وبعد تردُّد، وافق ممثلو قوى 14 آذار على تحويلهم (إن وُجدوا) إلى القضاء العادي؛ لكنّ "حزب الله" وحلفاءه لم يوافقوا. وكان مقصدُهُم من وراء ذلك أنّ القضايا المنظورة أمام المجلس العدلي، لا تجوز معالجتُها في أيِّ مكانٍ آخر؛ لذلك يمكن الكتابة لمجلس الأمن والمحكمة بالتوقُّف عن النظر في قضايا الاغتيالات، لحين انتهاء المجلس العدلي من محاكمة شهود الزور الذين استندت إليهم المحكمة! بيد أنِّ رئيس المحكمة ومُدّعيها العامّ وقُضاتها ما اهتمّوا لذلك، وقالوا عَرَضاً إنهم لا يستندون في أدلتهم إلى أيٍّ من هؤلاء المذكورين وغير المذكورين من جانب وسائل الإعلام! بيد أنّ "حزب الله" وحلفاءه استمروا في إصرارهم على قصة شهود الزور ومحاكمتهم، إلى أن وصل بهم الأمر إلى تعطيل اجتماعات مجلس الوزراء، ما لم تُبحث هذه القضية وتُحوَّل إلى المجلس العدلي، وكذلك الشأن مع هيئة الحوار الوطني التي يرأسها رئيس الجمهورية؛ فقد تغيّب عون وآخرون عن آخر اجتماعاتها، وقال هؤلاء إنهم لن يعودوا إلاّ إذا أُحيلت قضية شهود الزور إلى مجلس الوزراء وجرى البتُّ فيها لصالحهم. على أنّ الأشهر الثلاثة الأخيرة، ما شهدت وحسْب انقطاع العلاقة بين الحريري والأسد، وتعطُّل اجتماعات مجلس الوزراء تقريباً؛ بل شهدت أيضاً تكاثُف الأخبار عن قُرب توصُّل الحريري و"حزب الله" إلى اتّفاقٍ من خلال التواصُل السعودي السوري. وإذا كان هذا الاتفاق قد تأخَّر قليلاً، بسبب مرض الملك؛ فإنه سيُعلَن في 25/1/2011. لكنّ الحريري شكا في مقابلةٍ مع جريدة "الحياة" من أنه قام بما عليه، أما الطرف الآخر فلم يُنفِّذْ تعهُّداته. وما خفّف تصريح الحريري من التفاؤل بل زاده؛ باعتبار أنّ الاختلاف" تقني وليس سياسياً، إلى أن استدعى الأسد ممثلي "حزب الله" وحركة "أمل" إلى دمشق مساء الإثنين 10/1/2011 وأخبرهم أنّ الطرف السعودي "انسحب" من المبادرة، وطلب إليه هو أيضاً الانسحاب! وعرف فريق 14 آذار الأمر نفسَه من نيويورك التي كان الحريري قد ذهب إليها باستدعاءٍ من الملك الذي يستشفي هناك. لماذا توقفت المبادرة، رغم كلّ ما يقالُ الآن أنه ما كانت هناك مبادرةٌ مشتركةٌ ولا اتفاق! يُقالُ إنّ الحزب (ومعه سوريا) طلب قبل أُسبوعين أو أكثر أن يتضمَّن البيانُ الصادرُ عن الاتفاق من مجلس الوزراء خروجاً من المحكمة أو إنكاراً لها في رسالةٍ إلى مجلس الأمن. كما يقالُ إنه أراد حصول ذلك الآن وقبل صدور القرار الاتهامي. وسواءٌ أكان الخلاف منشؤه الصيغة أو التوقيت، فإنّ السوريين (وليس الحزب فقط) شعروا أنّ الانسحاب السعوديّ يعني سحب التكليف لهم أو إنهاء الشراكة معهم في الملفّ اللبناني، فطلبوا من حلفائهم أن يتصرفوا. لذلك سارع وزراء الحزب و"أمل" وعون وفرنجية إلى الطلب من رئيس الجمهورية يوم 11/1/2011 عقد جلسةٍ عاجلة لمجلس الوزراء في اليوم التالي، يكون موضوعها مواجهة المحكمة الدولية وإنكارها. وما استطاع رئيس الجمهورية تلبية طلبهم لأنّ الدستور يُعطي الحقَّ لرئيس الوزراء فقط بدعوة مجلس الوزراء للانعقاد؛ ولذا فقد أَقدموا على الاستقالة (10 وزراء)، هم ووزير شيعي من وزراء رئيس الجمهورية، فصاروا أحد عشر وزيراً، أي الثلث+1؛ وهو النصاب القانوني لاعتبار الحكومة مستقيلة. وحدث ذلك عندما كان الحريري يقابل أوباما، وبينما كان الأميركيون والفرنسيون والقطريون والمصريون والأتراك والسعوديون يعلنون عن استمرار المحكمة ودعمها، ودعم الحريري في رئاسته، ويحذرون من التأزم والاضطراب؛ وكان الحريري يغادر واشنطن إلى فرنسا فتركيا؛ ورئيس الجمهورية اللبنانية يدعو النواب لاستشاراتٍ تكليف شخصٍ بتشكيل حكومةٍ جديدة. السوريون غاضبون لسحب التكليف أو انتهاء الشراكة. و"حزب الله" منزعجٌ لقُرب صدور القرار الاتّهامي من المحكمة الدولية. بيد أنّ هذا وذاك ليسا سبباً أو شرطاً كافياً. ففي العراق هاج الصدر العائد من إيران بعد غياب ثلاث سنوات، وراح يدعو لمواجهة الاحتلال الأميركي. وفي غزّة عاد إطلاق الصواريخ من جانب التنظيمات المُوالية لإيران، على إسرائيل. و"حزب الله" تحرك بهذه الطريقة في لبنان. والإيرانيون ذاهبون لجلسة مفاوضات في اسطنبول مع لجنة 5+1، فربما أرادت إيران إبراز أوراقها في الديار العربية للمرة العشرين! وفي الوقت الذي كانت فيه كلينتون تدعو من قطر لنجدة لبنان وصون الشرعية والاستقرار فيه؛ عادت وسائل الإعلام الإيرانية واللبنانية الموالية لـ"حزب الله"، تتحدث عن هزيمةٍ جديدةٍ للولايات المتحدة من خلال انهيار حكومة الحريري، بعد أن كان خامنئي قد أعلن عن بطلان المحكمة الدولية قبل أسابيع!