انفصلت السودان لتصبح سودانين، ما المشكلة؟ الانفصال تقرير مصير كخيار توصل إليه السودانيون باتفاق 2005. خيار الانفصال أفضل من استمرار الحرب الأهلية التي اندلعت في السودان منذ عام 1983، وحصدت مئات الآلاف من الأرواح وملايين النازحين ومآسي الحروب التي خبرتها البشرية عبر تاريخها الطويل. منذ تأسيس الدول العربية الحديثة شهدنا نماذج قليلة للاندماج. وحده اتحاد الإمارات العربية هو الوحيد الذي أتي بخيار أهلها وبقي صامداً، بل أصبح داخل وجدان الشعب الإماراتي كافة دون استثناء، ولم يعد هناك من يفكر بالانفصال من الاتحاد. نماذج الوحدة بين مصر وسوريا لم تنجح، ولكن الانفصال لم يكن مكلفاً من الناحية البشرية. ومحاولة الاندماج السورية- العراقية عام 1979 أجهضها صدام بإزاحة البكر وقطع العلاقة مع سوريا. بقي لنا نموذج الاندماج اليمني، وهو نموذج يشهد تراجعات دامية يوميّاً، ومطالب تتصاعد بالانفصال مرة أخرى. كردستان جاهزة للانفصال وإعلان "الدولة"، وما يؤخرها ليس خوفها من العرب أو جامعة الدول العربية، ولكن الهاجس الإيراني والتركي من التدخل هو العامل الوحيد وراء تأجيل إعلانها. الانفصال ليس مؤامرة غربية على السودان ولا على غيرها، فتشيكوسلوفاكيا السابقة انفصلت دون حرب أهلية أو مذابح بين الفريقين، وتحولت إلى دولتين: التشيك وسلوفاكيا. وتزامنت مع الانفصال التشيكوسلوفاكي الوحدة الألمانية بين ألمانيا الشرقية والغربية. ونشوء الدول الجديدة ليس سمة متخلفة في العالم الثالث، فلخنشتاين استقلت بعد أشهر من الوحدة الألمانية التي تمت دون إراقة قطرة دم واحدة. وهي دولة صغيرة مساحتها ستون ميلاً وسكانها ثلاثون ألف نسمة وتقع بين سويسرا والنمسا -وجغرافيتها شبيهة بالتشيك وسلوفاكيا و"السودان الجديد" بحيث إنها جميعاً لا تطل على البحر وليس لها منفذ بحري. الكارثة الحقيقية المخيفة ليست الانفصال، بل الفصل، فكلمة الانفصال مدلولها فصل شيئين أو وحدتين مختلفتين اشتبكتا وتدل على أن إرادة ذاتية تريد الانفصال، بينما تدل كلمة الفصل على وحدة المفصول ومن ثم تمزيقه من الداخل، لأن ما يتم فصله هو شيء واحد متداخل أساساً. نموذج الحالة الفلسطينية البشعة هو نموذج للفصل وليس للانفصال، حيث فصلت الدولة الفلسطينية بين غزة والضفة الغربية قبل أن تتشكل. أي أن الفصل تم من الداخل، وهو تمزق وتمزيق ذاتي وليس انفصالاً. الصحراء المغربية نموذج آخر للفصل، فالصحراء مغربية وجزء من المغرب، ولولا التعقيد لما كانت هناك مشكلة أساساً وخصوصاً بعد مبادرة ملك المغرب بحق تقرير المصير للصحراويين. التفجيرات الدامية للكنائس العربية في مدن عربية عرفت المسيحية قبل الإسلام، هي محاولات مخزية للفصل والفلق والتمزيق من الداخل. لم نشهد مظاهرة عربية واحدة ضد التفجيرات الجبانة لدور عبادة المسيحيين المسالمين. حالات الفصل والاقتتال والتهجير الطائفي التي جرت بالعراق، ومأسسة المحاصصة الطائفية السياسية هي عمل لفصل العراق بمحض إرادة أبنائه، ومنهج بائن للعيان بتفتيته. ما جرى ويجري من سن لسكاكين الطائفية في لبنان هو مساهمة فعالة ومباشرة في فصل لبنان من الداخل، وتفتيته بأيدي أبنائه الذين يتشدقون دون توقف بأهمية التلاحم الوطني ووحدة الصف. السماح بالخطاب الفئوي والطائفي والقبلي المعلن في الكويت، هو تجاهل لخطر ماحق قد تندلع شرارة فتنته في أي وقت. انفصال الجنوب السوداني لا يعني نهاية السودان، ولا يعني أن جنوبه سيكون في غنى عن شماله، فلا منفذ ولا مخرج على البحر إلا عبر بورسودان، ولا مفر من بدء "موسم الهجرة إلى الشمال" -كما كتب الروائي السوداني الراحل الطيب صالح. شهدنا فصلًا سودانيّاً للانفصال، ونرقب مشهداً فلسطينيّاً للفصل. ليست النهاية، فالفصول تتعاقب!