في لحظات أسىً، قد يحزن الإنسان على مصر وعلى ما ينتابها من عصر إلى آخر من انهيار وضياع، وما قد يقع فيها من فقر. وسرعان ما يتبدد هذا الإحساس بإحساس آخر، لحظات فرح واعتزاز وبرفع الرأس، وأن المواطن يشرفه أنه ينتمي إلى مصر. ومن ذلك اللحظات التي يحكم فيها القضاء في مصر لصالح الشعب ضد نتائج الانتخابات الأخيرة في بعض الدوائر، وبإخراج الحرس الجامعي من داخل الجامعة. وقد حكم القضاء سابقاً ببطلان مجلس الشعب. وتم الامتثال لحكم القضاء، وحل المجلس، وأعيد الانتخاب. وعلى رغم ظروف القضاة وحل نواديهم المستقلة بين الحين والآخر، ومع استمالة السلطة التنفيذية لبعض قضاة المحاكم في عدد من الدوائر أو تقرب بعض القضاة إلى السلطة التنفيذية إلا أن بعض المحاكم ظلت مستقلة عن السلطة التنفيذية وقادرة على الحفاظ على استقلالها. ولا شك أن القضاء هو الملجأ الأخير للمواطن إذا هضم حقه. وهو الذي حافظ على روح مصر في التاريخ منذ شكاوى "الفلاح الفصيح" الآمن في حقله من استيلاء أعيان البلد على حماره وغلته دون وجه حق. ومهما توالى على مصر من نظم في الحكم إلا أن روحها ظلت باقية ومستمرة عبر التاريخ من خلال القضاء. فعظمة مصر في عدلها الكامن فيها، التوحيد والعدل. وقد استمرت هذه الروح في القضاء في الإسلام لرفع الظلم عن المسلمين. ويبدأ ذلك بالنصيحة، والدين النصيحة، تنفيذاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهو أصل من أصول الدين عند المعتزلة بعد التوحيد والعدل. وقد يتم ذلك من خلال أجهزة الإعلام الرسمية والقنوات الفضائية التي هي في يد الدولة. فإذا لم يُستمع إلى ذلك، يُرفع الأمر إلى القضاء، إلى قاضي القضاة، وهو منصب يعادل المحكمة الدستورية العليا، في زمننا الراهن. ينظر في الأمر وفي الأدلة على الظلم. ويستمع إلى الشهود، الآلاف من المشردين والجائعين والعاطلين والفقراء. ويصدر حكماً بتحقيق العدل بين الناس. وقد قرر القضاء الحديث مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية. التشريعية لسن القوانين، والتنفيذية لتطبيقها، والقضائية لمراعاة عدل التشريع ودقة التنفيذ. والقضائية أعلاها. هي الحَكم بين السلطات. وفي الواقع الفعلي، السلطة التنفيذية لها الأولوية على كل شيء. وقد ذكر العدل في القرآن لفظه أو معناه ثمانٍ وعشرين مرة. العدل صفة من صفات الله. وهو نقيض الظلم. العدل طريق مستقيم والظلم طريق معوج. فالعدل أساس الملك. رمزه الميزان متعادل الكفتين المرسوم والمنقوش على أبواب المحاكم. العدل عدم إنفاذ الظلم، اقتراب من العدل سلباً، فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح. هو فعل ذاتي وقانون موضوعي في آن واحد. تقوم عليه المجتمعات بل والسموات والأرض. ولا يمتنع أحد من تحقيق العدل مهما علا شأنه. العدل لا يعرف القرابة ولا الأهواء، ولا المصلحة ولا الشفاعة ولا المصالح الشخصية. هو حكم موضوعي حتى ولو كان على النفس دون تحيز لأحد. هو قيمة إنسانية أخلاقية عامة، بغض النظر عن الإيمان أو عدمه. العدل مظهر من مظاهر التقوى، تعبير عن الإيمان الباطني والرضا عن النفس. والإحساس بالمساواة بين الناس تعبير عن العدل، رؤية قبل أن يكون شيئاً، حكم من النفس قبل أن يكون تصديقاً على الأشياء. والله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى. هو أمر إلهي وقرينه الإحسان أي العدل عن طريق الكرم والمحبة، وليس بدافع الغضب والانتقام. العدل مع الناس عدل مع الله، ومراعاة الأقرباء والجيران جزء من العدل. والهدف من الوحي إقامة العدل بين الناس. الوحي قضاء، والقضاء عدل. والشريعة الإسلامية لها أسسها في حياة الناس وواقع البشر. وكان اليهود والنصارى يلجأون إلى قضاء الإسلام وليس إلى قضاء مللهم. العدل بين الأزواج، وبين فئتين متقاتلتين. العدل قانون تجاري يحرص على حقوق البائعين والمشترين. هو أساس الحكم بين الناس في أوجه الحياة العامة، وفي النظم السياسية والمساواة بين الناس في تطبيق القوانين وعدم محاباة طرف على حساب طرف آخر أو إيثار طبقة اجتماعية على حساب طبقة أخرى أو ميل لفئة ضد فئة أخرى. فالعدل أساس الملك. وهو أساس القضاء والحكم في المنازعات. ولا تعدم البشرية أمة تكون حارسة على إقامة العدل. يتحقق في الدنيا قبل الآخرة كما تعرض لذلك صور القيامة في الحساب والعقاب، والوعد والوعيد. وقد اتضح ذلك في صور الحساب من ميزان وشهود. والظلم إيذان بخراب العمران، ريح عاتية تهب على الناس، تهلك الشعوب والأمم. لا تخيف مواجهته بالقول الحسن والفعل السلمي، بالجهر والعلن. والساكت عن الحق شيطان أخرس. العدل أساس العمران، والظلم خرابه. والقسط مثل العدل. ورد لفظه أو معناه في القرآن سبعاً وعشرين مرة، القسط مع اليتامى والأزواج المستضعفين. والقسط في الكيل والميزان، وفي كتابة العقود والديون والآجال منعاً للريبة والغش. والله، سبحانه وتعالى، لا يظلم أحداً. أنزل الكتاب ووضع الميزان ليقوم الناس بالقسط فيما بينهم. القسط أمر إلهي وليس مصلحة بشرية وقتية. والشهادة شهادة بالقسط. وهو جزء من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والشهادة في سبيله. والقسطاس هو الميزان. والميزان صورة العدل. ورد لفظه أو معناه في القرآن ثلاثاً وعشرين مرة بمعنى العدل في الدنيا، والأمانة في التجارة، واستيفاء الكيل والوزن. وهو المعنى الحسي في البيع والشراء. والكتاب نزل بالحق والميزان. العدل قيمة مبدئية قبل أن تتحقق في المعاملات. فالميزان أساس الكون. فكل شيء في الكون يقع طبقاً لمبادئ الميزان. هو حركة الكون المنتظمة. وهو الوزن الحق يوم القيامة، كل حسب عمله طبقاً لقانون الاستحقاق. هو الميزان الشامل لسلوك الإنسان في الدنيا وتقييم أعماله طبقاً لقانون العدل. فتحية لقضاء مصر الذي يحافظ على روح مصر، وبقاء مصر، والعدالة الإلهية في إيمان مصر.