أغلب الظنّ أنّ الأثر والدويّ اللذين سيخلّفهما انفصال جنوب السودان لن يكونا بسيطين. فحين نتحدّث عن السودان فإننا نتحدّث عن أكبر البلدان العربيّة والأفريقيّة، وعن البلد العاشر في العالم مساحة، وعن رقعة الاشتراك الأكبر بين العرب والأفارقة، هذا ناهيك عن غنى السودان بالنفط والموادّ الأوليّة والثروة الزراعيّة. ويذهب بعض متابعي الوضع السودانيّ إلى توقّع التصاعد اللولبيّ في التفكّك: كأنْ تبدأ وجهة مماثلة في دارفور، وربّما في شرق السودان أيضاً. يحصل هذا كلّه وسط بيئة عربيّة طغت عليها دعوات الوحدة وتجريم الانفصالات. فـ"الوحدة" شكّلت العمود الفقريّ للفكر السياسيّ والحزبيّ الذي ساد العالم العربيّ ما بين استقلال دوله والسبعينيات. وبعد صعود الإسلام الراديكاليّ شرعت "الأمّة الإسلاميّة" تحلّ محلّ "الأمّة العربيّة" أو تشاركها تصدّر الدعوات السياسيّة. ونعرف أنّ تعبيري "تجزئة" و"انفصال" عادلا، ويعادلان، في الوعي العربيّ السائد أسوأ المعاني والدلالات: فـ"التجزئة"، بحسب هذا الوعي، هي ما يفعله الاستعمار وحده، وأهمّ أفعال التجزئة معاهدة "سايكس -بيكو" البريطانيّة الفرنسيّة عام 1916 لتجزئة المشرق العربيّ وتمهيد الطريق لقيام دولة إسرائيل. أمّا "الانفصال" فهو الكلمة التي سُكّت إثر انقلاب سبتمبر 1961 السوريّ والذي أنهى الوحدة المصريّة السوريّة التي قامت عام 1958 برئاسة جمال عبد الناصر. مذّاك ونعت "انفصاليّ" يحتلّ في القاموس السياسيّ العربيّ المهيمن بعض أبشع المعاني، جنباً إلى جنب "الخائن" و"العميل" و"الرجعيّ". هذا كلّه جبل كرتونيّ هوى مع التجربة السودانيّة الأخيرة التي كسرت المحرّم المذكور. فبعد اليوم، صارت التجزئة والانفصال رغبات شعبيّة ينفّذها بشر ذوو إرادات، وذلك من خلال عمليّة استفتاء ديمقراطيّة بحتة. بل يمكن للبعض أن يستنتجوا أبعد من هذا، مخطّئين النظريّة القوميّة عن التجزئة بالكامل: ففي مقابل الرواية هذه، يتبدّى أنّ السودان لم يُجزّأ بل وُحّد أكثر ممّا يحتمل السودانيّون. والشيء نفسه يصحّ في بلد كالعراق ضُمّ أكراده إلى عربه ضمّاً احتجّوا مراراً عليه وانتفضوا ضدّه. فالاستعمار، حسب ما تبيّنه تجارب عدّة، لم يمنع فقط التجزأ في هذين البلدين، وفي غيرهما، بل يمكن اتّهامه بالمبالغة في التوحيد! لكنّ الأمر لا يقف عند هذا الحدّ. ذاك أنّ الانفصال إنّما حصل بعد فشل مديد عانته تجربة التعايش الوطنيّ السودانيّ، وكان للفشل المذكور أن استجرّ حروباً أهليّة ترقى بداياتها إلى الستينيات، حروباً كلّفت مئات آلاف القتلى وتبديداً هائلاً للموارد. وكان لهذه الحروب أن أنتجت لدى الجانبين المتصارعين رموزاً وأبطالاً وشهداء وقضايا يصفها كلّ منهما بـ"المقدّسة". بمعنى آخر، فإنّ أصحاب دعوة الانفصال عن السودان يملكون حجّة قويّة يصعب دحضها بخفّة: لقد جرّبنا الحياة المشتركة منذ قيام البلد ولم تنجح التجربة. وما يقوّي هذه الحجّة أكثر أنّ الانفصال إنّما جاء نتيجةً لاستفتاء شعبيّ، أي أنّ المواطنين هم الذين اختاروه. ولربّما كان بالوسع أن نتوقّع نجاح تجربة الوحدة السودانيّة فيما لو تسنّى ظهور طبقة سياسيّة ديمقراطيّة ومهمومة بإنجاح الدمج. لكنّ هذا لم يحصل إذ تتالت الانقلابات العسكريّة التي أجهضت محاولات ديمقراطيّة لم تعمّر إلاّ قليلاً. وفي هذه الغضون حاول حاكمان عسكريّان هما نميري ثمّ البشير فرض تطبيق الشريعة الإسلاميّة على جنوبيّين هم ليسوا مسلمين أصلاً، فضلاً عن أنّهم ليسوا عرباً! وعلى أيّة حال فإنّ المحرّم الذي كسره استفتاء الجنوب بات قابلاً لأن يُكسر في أجزاء كثيرة من العالم العربيّ. فالمحلّلون لا زالوا منشغلين بالمعنى الذي قصده البارزاني حين تحدّث في خطابه الأخير عن "حقّ تقرير المصير للأكراد". وقد تتالت المذابح التي نزلت بالمسيحيّين في العراق ومصر، حيث عاشت بعض أعرق مسيحيّات العالم وأقدمها عهداً. وها هي تجربة التعايش في لبنان تعلن فشلها، فيما التنازع السنّيّ الشيعيّ في العراق ومناطق أخرى من العالم الإسلاميّ يهدّد اجتماع العالم المذكور ويطرح أسئلة على خرائطه. أمّا اليمن فتعيش وحدته اليوم أكبر تحدّياتها منذ قيام الوحدة إثر انهيار النظام الجنوبيّ السابق. وهذا كله معطوفاً على صعود الإسلام الأصوليّ ممثّلاً بـ"القاعدة" ونظيراتها التي لا تكتفي باستبعاد الآخر وتهميشه، بل تسعى إلى قتله واجتثاثه. وقصارى القول إنّ الرغبات الانفصاليّة والتقسيميّة، وفي معزل عن الإنشاء الخطابيّ الوحدويّ، تغدو أوسع انتشاراً وأعمق نفوذاً. وبالطبع سبق أن قيل، ويُقال، إنّ إسرائيل والولايات المتّحدة تقفان وراء هذا النزوع المتنامي، لكن هذا المنطق التبريريّ لن ينفع بعد اليوم. صحيح أنّ إسرائيل وأميركا لن تتورّعا عن الاستفادة من هذه التحوّلات إذا ما بدت مفيدة لهما، وأغلب الظنّ أنّ إسرائيل تستفيد منها. بيد أنّ ذلك شيء والقول إنّ الإسرائيليّين والأميركيّين هم الذين صنعوا ويصنعون تلك التحوّلات شيء آخر. والمرجّح أن يثير الحدث السودانيّ شهيّة الكثيرين في السودان، كما في سائر العالم العربيّ، للقيام بأعمال مماثلة. وهذا التوقّع يغدو أكثر قابليّة للتصديق في ما لو نجحت تجربة جنوبيّي السودان وتمكّن أبناؤها من بناء كيان سياسيّ معقول يتفادون معه تبديد الموارد والفساد واضطهاد الجماعات الإثنيّة الأصغر والأضعف قياساً بإثنيّة الدنكا الأكبر. فنحن لا نبالغ إذا قلنا إنّنا، نحن العرب، لم نستفد من الحقبة الاستقلاليّة إلاّ لنبني أوطاناً يتبادل أبناؤها الخوف والكراهيّة ويفكّر واحدهم في الفرار من الآخر بمجرّد أن تسنح الفرصة. هذا هو الموضوع.