هل تراجع الدور العسكري لليابان بعد عقود من السلبية إزاء مشكلات الأمن والسلام في مناطق العالم الخارجي؟ هذا هو الموضوع الرئيسي الذي يناقشه بول مدفورد، الأستاذ المشارك بشعبة العلوم السياسية والاجتماعية، ومدير برنامج الدراسات اليابانية بجامعة العلوم والتكنولوجيا النرويجية في تروندهايم، في كتابه الذي نعرضه هنا، وقد جاء تحت عنوان "إعادة النظر في الرأي العام وقضايا الأمن الياباني". وتعود التحولات التي بدأتها اليابان على مستوى استراتيجيتها الأمنية الدفاعية، إلى الرابع عشر من مايو عام 2007. ففي ذلك اليوم اتخذت اليابان خطوة كبيرة نحو تخطي استراتيجية السلبية الدفاعية العسكرية التي انتهجتها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وطوال فترة الحرب الباردة وشكلت ميزة بارزة لمجمل أدائه الخارجي. ذلك أن البرلمان الياباني صادق في التاريخ المذكور على خطوات إجرائية تمهد الطريق لإجراء إصلاح جذري على نصوص الدستور الذي أجازته اليابان -بإشراف أميركي- منذ أزيد من ستين عاماً مضت، أي في مايو من عام 1947. وبينما رحب الرأي العام الياباني بتلك الوثيقة الدستورية -آخذاً في الاعتبار الأهوال والفظائع التي عاناها المجتمع خلال سنوات الحرب- لم يكف الساسة المحافظون عن محاولاتهم المستمرة ومساعيهم الرامية لتعديل المادة التاسعة من الدستور والتي تنص على التزام اليابان بسياسة السلبية العسكرية، وتحرّم على طوكيو التهديد باستخدام القوة أو استخدامها فعلياً لحل أي نزاعات دولية. وفي مايو من عام 2007، لم يخف رئيس الوزراء حينها "شينزو آبي" تطلعاته لأن يكون لقوات بلاده العسكرية، دور أكثر فعالية في العمليات العسكرية الخارجية، بما في ذلك أن يكون لهذه القوات حق تقديم المساعدة لأيٍ من حلفائها الإقليميين -في إطار أي خطة أو عملية للدفاع المشترك عن الذات- سواء أكان ذلك في مواجهة الخطر الأمني الإقليمي المتمثل في كوريا الشمالية، أم في مواجهة الإرهاب الدولي وقد أصبح خطراً يهدد جميع الدول بدون استثناء. وعندها صرح آبي قائلاً: "لقد طرأ تغيير كبير على دور اليابان في المجتمع الدولي قياساً إلى ما كان عليه دورها قبل 60 عاماً. ونتوقع حدوث تغير كبير في هذا الخصوص، حيث تقع على عاتقنا مسؤولية أداء دور أكبر في المحافظة على الأمن والسلم الدوليين". وهذا ما يؤكده البروفيسور مدفورد في كتابه هذا الذي يدافع فيه عن فكرة أن الرأي العام الياباني قد تغير كثيراً منذ هجمات 11 سبتمبر على الولايات المتحدة الأميركية، وأنه أصبح أكثر تأييداً لعملية تطبيع دور الجيش الياباني وإعادة إعطائه دوراً أكبر في الدفاع الذاتي وحماية الأمن الوطني. بل يحاجج الكاتب بالقول إن الرأي العام الياباني لم يكن يؤيد سياسات السلبية الدفاعية التي فرضت على اليابان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وها هي نسبة التأييد الشعبي لتطبيع الدور العسكري وتوسيعه مجدداً تزداد باضطراد، وإن كانت مصحوبة بمعارضة علنية وغير علنية لتوسيع مهام الجيش الياباني حتى تشمل تحقيق أهداف دولية والمشاركة في عمليات عسكرية خارج حدود البلاد، لها صلة بمواجهة خطر الإرهاب العالمي مثلاً، أو بالتهديدات الأمنية الناشئة عن انتشار أسلحة الدمار الشامل... وغير ذلك من المخاطر والتحديات الأمنية. ومن رأي المؤلف أن هذا التحول في الاستراتيجية الدفاعية اليابانية له صلة بالسياسات الواقعية التي ظلت تتبناها طوكيو منذ عدة عقود. فقد نجحت القيادة السياسية في إقناع الرأي العام بأهلية الحكومة والجيش الوطنيين للثقة، وبجدارتهما فيما يتعلق بالدفاع عن الأمن الداخلي والإقليمي. بل مضت خطوة أبعد من ذلك إذ نجحت في إقناع الرأي العام بضرورة أن يكون لليابان دور مهم في المساعدات الإنسانية والعمليات العسكرية غير القتالية، كما هو الحال مع مهام إعادة البناء والدعم والتدريب التي أوكلت إليها في حربي العراق وأفغانستان. وفي هذا السياق -كما يقول المؤلف- فإن على المحللين أن يعيدوا النظر في مواقف واتجاهات الرأي العام الياباني، على أساس أنها تمثل انعكاساً أو تعبيراً عن سلوكيات سياسية واقعية، ظلت اليابان تتبناها منذ عدة عقود مضت. وهناك من قراء الكتاب والمعلقين عليه، من رأى أن دراسة مدفورد هذه تقدم رؤية عميقة لما يمكن أن تكون عليه سياسات الدفاع الياباني بعيدة المدى. ولذلك فهي تكتسب أهمية خاصة في وقت يسود فيه الارتباك بشأن الاستراتيجية العسكرية اليابانية المستقبلية. وعلى الرغم من أن طوكيو لم تتجاوز كلياً سياسات السلبية الدفاعية التي التزمتها لعدة عقود، فإن هناك ما يثير قلق المحللين الدفاعيين إزاء التحولات المتوقعة للدور العسكري الياباني، خاصةً في ظل توتر علاقات التحالف الدفاعي بين واشنطن وطوكيو مؤخراً، واتجاه الأخيرة لإعلان كوريا الشمالية تهديداً أمنياً لها، إضافة إلى توترات الأمن الإقليمي المتصلة باتساع النفوذ العسكري والاقتصادي للعملاق الصيني الصاعد. عبدالجبار عبدالله الكتاب: إعادة النظر في الرأي العام وقضايا الأمن الياباني المؤلف: بول مدفورد الناشر: مطبعة جامعة ستانفورد تاريخ النشر: 2011