في يوم السبت السادس من يناير الجاري، قام رجل بفتح النار من مسافة قريبة على جمع من الناس، كانوا واقفين خارج أحد متاجر البيع الشهيرة في مدينة "تاكسون" بولاية فلوريدا، لحضور تجمع سياسي نظمته عضوة الكونجرس الديمقراطية "جبراييل جيفوردز". وأسفر الهجوم عن مصرع ستة أشخاص، من بينهم القاضي الفيدرالي "جون رول"، وعن إصابة أربعة عشر آخرين، من بينهم عضوة الكونجرس ذاتها والتي أصيبت بطلقة في الرأس ونقلت للمستشفى في حالة حرجة بين الحياة والموت. وقد استخدم الجاني ويدعى "جاريد لوفنر" (22 عاماً) مسدساً نصف آلي من نوع "جلوك 19" اشتراه، كما جاء في الأنباء، في شهر نوفمبر الماضي، من محل لبيع الأسلحة النارية في تاكسون. وعلى الرغم من أن التحريات أفادت أن صاحب المحل قد طلب من "لوفنر"تقديم الإثباتات اللازمة للتأكد من هويته وشخصيته قبل بيعه المسدس المستخدم في الجريمة، إلا أن الأخير تمكن من الحصول على المسدس في نفس اليوم. وفقا لقانون مخفف جديد تطبقه ولاية أريزونا، التي تعتبر من أكثر الولايات تساهلاً فيما يتعلق بالحصول على السلاح، فإنه يمكن لأي شخص أن يشتري سلاحاً في الولاية دون أن يكون حاصلاً على ترخيص بذلك، وكل ما هو مطلوب أن يكون ذلك الشخص فوق الحادية والعشرين من العمر، وبعد ذلك يمكنه أن يحمل السلاح المُشترى، بشكل غير ظاهر، في أي مكان يذهب إليه، بما في ذلك المباني العامة والمطاعم. وقد أثار الحادث نقاشاً عاماً غاضباً حول الصلة بين الخطاب السياسي المتطرف، والقوانين الرخوة ذات الصلة بشراء وحمل السلاح، والسهولة التي تمكن بها الشاب المسلح "لوفنر" من إطلاق النار على الضحايا. وقد تبين من التحقيقات الأولية أن لوفنر شاب مضطرب، كان قد تقدم بطلب للالتحاق بالجيش، لكن طلبه رفض بسبب تعاطيه المخدرات، كما أنه كان قد تلقى تحذيراً من إدارة كليته بأنها لن تعيد قيده ما لم يسع للحصول على مساعدة من أخصائي نفساني، لمعالجة سلوكه الذي يؤكد زملاؤه في الفصل الدراسي بأنه كان غريباً بكافة المقاييس. وكما كان متوقعاً، فقد بادر البعض في اليسار الأميركي إلى توجيه الاتهام غير المباشر لحركة "حفلات الشاي" التابعة للحزب الجمهوري، مُلمِّحاً إلى أنها هي المسؤولة عن خلق مناخ غاضب يُسهّل تبرير أعمال العنف. وتعرضت محبوبة حركة "حفلات الشاي" المدللة "سارة بالين" للانتقاد بسبب تصرفاتها خلال انتخابات الكونجرس في شهر نوفمبر الماضي، حيث نشرت في موقعها الإلكتروني خريطة تظهر الديمقراطيين الذين كانت ترى أنهم يجب أن يكونوا "مستهدفين" بالهزيمة. وقد تم رسم النواب المستهدفين بالهزيمة في تلك الخريطة داخل دائرة يظهر فيها صفان متقاطعان من البنادق وتحت الرسم اسم الدائرة الانتخابية التي يمثلونها. لكن بالين عادت وأزالت هذا الرسم من موقعها بعد ذلك. وكان من الطبيعي أن يهب خبراء الإذاعة والتلفزيون اليمينيون للدفاع عن مرشحتهم السابقة وللرد باتهام الديمقراطيين بأنهم يسعون لتوظيف المأساة لأغراض سياسية. وموضوع السيطرة على بيع واستخدام السلاح، يأتي في قلب النقاش السياسي المحتدم في الولايات المتحدة. فعلى مدى السنوات العشر الماضية، تم إلغاء قوانين شراء وحمل السلاح في عدد من الولايات، بما في ذلك "واشنطن دي. سي" التي كانت تعتبر من أكثر المناطق صرامة في تطبيق تلك القوانين. ومما سبق يمكننا استنتاج مدى القوة والنفوذ اللذين تتمتع بهما لوبيات السلاح في الولايات المتحدة، ومنها على سبيل المثال "اتحاد الأسلحة الوطني"، وكذلك عدم رغبة الحزب الديمقراطي في تحدي ذلك اللوبي بسبب قدرته على التأثير في الانتخابات. ويشار في هذا السياق إلى أن قوانين شراء وحمل السلاح في الولايات المتحدة، تختلف اختلافاً بيناً عن مثيلتها في الديمقراطيات الأخرى، بل تعتبر نسيجاً وحدها في هذا الشأن. فالدولتان المجاورتان للولايات المتحدة وهما المكسيك وكندا، على سبيل المثال لا الحصر، تطبقان قوانين لشراء وحمل السلاح تعتبر هي الأكثر صرامة في العالم، وهو ما أدى إلى تقليص جرائم القتل بالأسلحة النارية فيهما إلى أدنى حد ممكن. ورغم أن هناك مذابح كبرى تجري في المكسيك بين عصابات المخدرات المتنافسة أو أثناء المواجهات بينها وبين قوات الشرطة، فإن تلك المذابح تتم باستخدام بنادق هجومية مهربة عبر الحدود من الولايات المتحدة. ومشكلة السلاح في الولايات المتحدة الأميركية ترجع جزئياً إلى ما يعرف بـ"عقلية الحدود"، وهي العقلية التي تشكلت منذ القرن التاسع عشر حينما كان الأميركيون البيض مضطرين للدفاع عن حدود أراضيهم ضد هجمات قبائل الهنود الحمر التي كان البيض قد استوطنوا أراضيها. وهذه العقلية، وكذلك التعديل الثاني في الدستور الأميركي، هما اللذان يسوغان للأميركيين فكرة أنه من حقهم حمل السلاح للدفاع عن أنفسهم ضد أي خطر محتمل. ولكن ينسى الأميركيون أن التعديل الثاني للدستور كان قد كتب في زمن كان الأمر يحتاج فيه إلى وقت طويل لشحن البندقية بالبارود وإطلاقها (أقصد إطلاق رصاصة واحدة فقط) قبل أن تعاد الكرّة من جديد. والمؤكد أن من قاموا بصياغة ذلك التعديل، لم يضعوا في اعتبارهم أنه سيأتي يوم سيكون فيه من الممكن إطلاق 40 رصاصة من مسدس أو بندقية آلية في ثوان معدودات. إن أميركا تختلف عن غيرها من دول العالم المتقدم في موضوع شراء وبيع السلاح، وهو ما يجعل من الحتمي سن قوانين أكثر صرامة في هذا الشأن. ومع ذلك، فإنه ليس من المتوقع أن يتم سن مثل هذه القوانين قبل انقضاء جيل أو ما يقرب من ذلك. ويجب هنا ملاحظة أن الأسلحة النارية على وجه الخصوص أكثر خطورة من بقية الأسلحة في ارتكاب جرائم القتل، بل ويمكن القول إنها تمثل سلاحاً فريداً من نوعه. فأي مجنون يمسك في يده سكيناً أو فأساً يمكن أن يقتل ما بين ثلاثة إلى أربعة أشخاص قبل أن يتم التغلب عليه وشل حركته، في حين أن أي مجنون يمسك بندقية آلية أو مسدساً نصف آلي مرخصين قانوناً، يمكنه بسهولة بالغة أن يقتل العشرات في بحر ثوان، مثلما حدث في مذبحة مدرسة كولومبيا الثانوية عام 1999، ومذبحة "معهد فرجينيا التطبيقي" (فرجينيا تك) عام 2007. فلا شيء أكثر خطورة من شخص مهووس يحمل بندقية آلية.