واقع الأمة العربية الراهن: انقسام يتلوه انقسام... ثم انقسام المنقسم نفسه وهكذا دواليك! فمنذ انهيار التجربة الوحدوية ممثلة في "الجمهورية العربية المتحدة" عام 1961، بدأ عصر "ازدهار الإقليمية العربية"، فأصبحت الدولة القطرية هي الأساس، بل الغاية والمنتهى عند البعض الرسمي ثم عند البعض "الجماهيري"! وحين عادت حمى "الدولة القطرية" لتغزو العقل والجسد العربيين سادت مقولات اشتمل مضمون بعضها على مفاهيم وتوجهات "قطرية" مريضة، بينما حمل مضمون بعضها الآخر حسن النوايا والمقاصد تحت وطأة مقولة الظروف الموضوعية والطروحات المستندة إلى "الواقعية السياسية" وغيرها! وبالأمس، كان العراق والصومال، واليوم اليمن والسودان ولبنان ومصر؟ ففي معظم أنحاء العالم العربي اليوم، تتعدد مظاهر الاحتقان والتنفيس عنه بالعنف، والسبب واحد: عجز الدولة الوطنية العربية عن معالجة قضية المواطنة، وتفاقم الاختلال في علاقة الدولة العربية بمواطنيها، ما ينبئ بالغرق في دوامة صراعات إثنية وعرقية ومذهبية وطائفية ومناطقية! ثمة "مثلث" علاقات يجمع بين "الوعي السياسي"، و"بناء الدولة"، و"بناء (الشعب) الأمة"، أو ما اصطلح على تسميته عملية "البناء الوطني". وتتحدد محصلة هذه العلاقات في ضوء مستوى (ونوع) الوعي السياسي، وطبيعة عمليتي كل من "بناء الدولة" و"بناء الأمة" وتفاعلهما. فلسطينياً، مع الضعف المتزايد للقوى السياسية الفلسطينية (الفصائل والأحزاب) نتيجة استهدافها (وكوادرها) إسرائيلياً، ونتيجة الأسباب البنيوية الذاتية الفلسطينية، تعززت حركة "التمفصل" للعلاقات القرابية على نحو سلبي بما عزز دور البنى الاجتماعية التقليدية، الأمر الذي أضعف من جديد عملية "البناء الوطني" المنهكة أصلاً، مع الإقرار بأن الروابط والجمعيات التقليدية بأشكالها المختلفة، لعبت في الانتفاضة الكبرى الثانية دوراً إيجابياً (ولو على نحو أقل) مما سبق ولعبته في الانتفاضة الأولى. فالسلطة الفلسطينية باتت عندئذ أشبه ما تكون بعشيرة (قوامها العلاقات الزبائنية). وهي -عند البعض- العشيرة الأقوى وقد تمارس أحياناً دور الوسيط بين العشائر والحمائل في حالات النزاع المتكاثرة. وأثناء الانتفاضة الثانية، ثمة حالات ساطعة (بل معتمة!) تؤكد أن "السلطة" اكتسبت هذه "المكانة" بفضل كونها مارست دور مسدد "الدية" أو "العطوة" عن قتيل هنا وقتيل هناك! كذلك، ثمة حالات ساطعة (بالتأكيد معتمة) عن أن قائداً سياسياً في الضفة الغربية أو في قطاع غزة على حد سواء، التجأ إلى "عزوته" القرابية أو الجهوية للدفاع عن (أو تعزيز) موقعه الوظيفي أو الحزبي أو السياسي، أو لحماية نفسه وعائلته ممن يستهدفونه من "أبناء جلدته"! بل وصل الأمر حد الاستناد إلى مواقع سياسية، إضافة إلى العلاقات القرابية أو الجهوية، للأخذ بالثأر العائلي أو الحمائلي، أو للدفاع عن "العرض" ولإنقاذ "الشرف" الذي يجب أن يراق على جوانبه... الدم! وعلى أهمية الدور الذي لعبته الفصائل والقوى السياسية في منظمة التحرير الفلسطينية في "توحيد" المجتمع الفلسطيني، فإن معظمها لعبت في بعض الأحيان دوراً تفتيتياً، بسبب العقلية الإقصائية والتهميشية، والتوجهات "الفصائلية الضيقة" ذات المردود السلبي، ناهيك طبعاً عن اعتبارات السيطرة السياسية! فبالإضافة إلى الانقسامات والانشقاقات التي أصابت جميع التنظيمات، وغالباً بتشجيع خارجي من دول أو حتى من فصائل أخرى ذات مصلحة، فقد شكل غياب الديمقراطية وعدم احترام التعددية الفكرية داخل التنظيم الواحد سبباً في الانشقاقات والانقسامات، هذا فضلاً عن ظاهرة الفئوية السياسية، حيث تعمق الولاء للتنظيم ليتفوق أحياناً على الولاء للوطن أو القضية. وهذا "التردي" الذي أضعف وزن وقيمة معظم الفصائل تزايد منذ عهد السلطة وبخاصة بعد الانتفاضة الثانية. فأي مشروع سياسي يسعى لبناء وتقدم المجتمع لابد أن يرتكز إلى أسس وطنية وتقدمية، فالتجربة السياسية الفلسطينية تحتاج إلى تغيير جذري في البناء السياسي الديمقراطي. إن المتاهة السياسية المحيرة التي تعيشها السلطة الفلسطينية و"التنظيمات" كلها، أثّرت سلباً على القضية الفلسطينية، وجعلت -في ظل الواقع البائس- من كل طرح فلسطيني (كحوار وطني، تشكيل حكومة وطنية موحدة، إعادة بناء منظمة التحرير... إلخ) نكتة سمجة. فبعدما "ماتت" اتفاقات أوسلو على أيدي إسرائيل، خلفت وراءها إساءات لكل ما هو جميل وعظيم في التجربة الفلسطينية، وأصبحت الأراضي الفلسطينية المحتلة مجزأة ومحاصرة. وفي الوقت ذاته، ازدادت المستوطنات بشكل مخيف ومرعب، وتوسعت وصارت طرقها الالتفافية (مع جدار الفصل العنصري) تأكل الأخضر واليابس، مثلما توسعت وتسرعت عملية الاستيلاء على القدس وتهويدها بشكل أسرع مما كان عليه قبل الاتفاقية، لاسيما في عهد حكومة نتنياهو الراهنة. لقد تمكنت إسرائيل، عبر عدوانها المتصاعد ضد الشعب الفلسطيني، من تحويل حياة المواطن الفلسطيني في الضفة المحتلة والقطاع المحاصر، إلى ساحة صراع دائم، مستهدفة إرادته السياسية للنيل من وعيه السياسي وتشكيكه بعدالة قضيته وجدوى مقاومته للاحتلال... ما يؤكد أهمية الوعي السياسي في كسب معركة الإرادات ضد إسرائيل، وفي إنهاء المعاناة التي يعيشها الشعب الفلسطيني. غير أن الوضع "الديمقراطي" الفلسطيني مازال -حقيقة- غير حر في اختياراته الكبرى، الأمر الذي يضعف إمكانية بلورة أي برنامج حقيقي لنمو وعي سياسي متقدم يتجاوز "المكونات" و"الولاءات" الصغيرة نحو ما هو أكبر، أي المواطَنَة. فالحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تمكنت -بوسائل متعددة- من تحقيق اختراق كبير في الوعي الجمعي السياسي للشعب الفلسطيني، رسخه الانقسام الفلسطيني الداخلي، حيث باتت المصالح الفئوية تسبق المصالح الوطنية والقومية. فهل من مراجعة جذرية صادقة تقفها القوى الفلسطينية الحية لتجاوز الواقع المأساوي الراهن وارتياد آفاق المستقبل على نحو وحدوي يعيد تأهيل الشعب الفلسطيني بعد إعادة تأهيل هذه القوى لنفسها؟!