كثر الحديث عن مخطط لتهجير المسيحيين العرب من فلسطين والعراق ولبنان، وقد استعاد الحديث حرارته بعد مجزرة الإسكندرية التي يتهم بها الغرب الإسلام كعادته، ويتجاهل أن تكون إسرائيل وراء ما يحدث، فالإسلام هو "العدو" الذي يريد متطرفو الغرب إثبات تهمة الإرهاب عليه لإثبات صحة نظرية صراع الحضارات والأديان التي دحضها العرب مسيحيين ومسلمين، ولابد من أن تقدم ضد الإسلام أدلة وشواهد، تؤجج مشاعر العالم كله، وهكذا اتهم الإسلام دون تحقيق بجريمة سبتمبر، واتهم بعشرات التفجيرات التي حدثت في العالم دون أن يتابع أحد ماذا أثبت التحقيق فيها وماذا أنكر! ولكن الغرب يصمت عن الحديث حين يتعلق باضطهاد وتهجير مسيحيي فلسطين، حيث لا يمكن اتهام الإسلام، فإسرائيل هي التي تهجر المسيحيين علانية، وهي التي جعلت عددهم يصل إلى أقل من واحد في المئة بعد أن كانوا ربع السكان الأصليين، وإسرائيل هي التي تعتدي على الأوقاف المسيحية، وهي التي حاصرت الكنائس ومنعت عنها المياه حتى إنني أذكر قول الدكتور بيتر من البطريركية اللاتينية إنه يشعر بالذهول فلا الأتراك فعلوا ذلك ولا البريطانيون ولا الأردنيون، كما أن إسرائيل قامت منذ فترة قريبة بحرق كنيسة في شارع الأنبياء في القدس، ومنذ مطلع العام الماضي توالت اعتداءات الإسرائيليين على الكنائس يقودها تيار يهودي أصولي يسمى "الحريديم" وفي ضاحية "ميئا شعاربم" فوجئ المسيحيون بكتابات تهزأ من السيد المسيح كما شتم شبان "الحريديم" الرهبان والراهبات وألقوا الحجارة عليهم لدفعهم إلى الهرب. ولا ينسى أحد ما فعلته إسرائيل مع مطران القدس المناضل الكبير هيلاريون كبوتشي الذي جاء إلى فلسطين من حلب مثلما جاء القسام من جبلة. وما ذكرته هو شيء يسير مما تفعل إسرائيل ضد المسيحية والمسيحيين، وأوروبا تصم أذنها وتغمض عينها عما تفعل إسرائيل، ربما لأن أصحاب النفوذ السياسي ما يزالون يكرهون المسيحية العربية، لأنها وقفت ضد المشروع الصهيوني منذ بدايات ظهوره، ولأن المسيحيين العرب شاركوا بقوة في تأسيس الفكر المقاوم، وبرز منهم مناضلون كبار في الثورة الفلسطينية منذ منتصف الستينيات. وعلى رغم أن عدد المسيحيين في العالم يتجاوز الثلاثة مليارات نسمة، فإن كنيسة المهد والقيامة تحت الاحتلال ولا ينسى أحد الحصار الذي فرضته إسرائيل على كنيسة المهد في رام الله عام 2002 الذي استمر نحو أربعين يوماً. وهذه الكنيسة الأم القائمة منذ القرن الرابع الميلادي وهي محج آلاف المسيحيين من العالم، لم يعتد عليها أحد عبر التاريخ إلا الإسرائيليون الذين بادروا كذلك بالاعتداء على كنيسة القيامة وتغيير معالمها وقد حولوها في بعض الأعياد إلى ثكنة عسكرية بحجة الحراسة، وكان الهدف مضايقة الحجاج المسيحيين. وهذا الموقف الإسرائيلي ينطلق من عقد عقائدية وتاريخية لا تنسى لمسيحية العرب أنها رفضت تبرئة اليهود من مسؤولية ما لاقى أتباع المسيح من تنكيل وتعذيب، فعلى رغم أن كثرة من مسيحيي الغرب انصاعت لمطالب الصهاينة وبرأت اليهود، واتهمت الرومان إلا أن الكنيسة العربية والسريانية الأصيلة ما تزال تتمسك بالإنجيل الصحيح، وما يزال أبناؤها مع خيارهم التاريخي في التلاحم المسيحي الإسلامي. وكان الغرب يأمل أن ينفك هذا التلاحم بين المسلمين والمسيحيين العرب، ويحاول أن يجعل من المسيحيين ذريعة للتدخل في شؤون العالم العربي تحت غطاء حمايتهم، وهنا أنقل جملة مهمة قرأتها لفيكتور سحاب يقول فيها: كلما امتدت يد الغرب بدعوى حماية مسيحيي العرب أردد «قل أعوذ برب الفلق» ولقد سعى الغرب إلى التسلط على مسيحية العرب منذ العهد العثماني، حيث تقاسمت دول كبرى هذه الحماية التسلطية، لتعاقب المسيحية العربية على موقفها المبدئي من الفتوحات الإسلامية ومشاركتها فيها، ولتعاقبها على مواقفها من الحملات الصليبية أيضاً، واليوم يستمر العقاب لموقف المسيحية العربية المدافعة عن القضية الفلسطينية. لقد اشتغل كثير من قادة الغرب من أجل إفراغ الوطن العربي من المسيحية العربية الأم، وفتحت دول غربية كبرى أبوابها تشجع المسيحيين على الخروج من فلسطين ومن لبنان، وما تزال مسألة الحماية مطروحة في السر وفي العلن. وهنا أتذكر ما كان يقوله الزعيم الوطني السوري فارس الخوري: "إن حماية المسيحيين هي مسؤولية المسلمين" وهذا ما يردده اليوم المسلمون في شوارع مصر، وهم معنيون بالدفاع عن المسيحية وبالحرص على أمن الكنائس، وهذا ما قامت به سوريا يوم كُلفت عربيّاً بوقف الحرب الأهلية في لبنان. ولا يمكن فهم ما يحدث الآن في مصر وفي جنوب السودان إلا باستعادة النظر فيما تم إنجازه مما سمي مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي يسعى إلى تفتيت البنى الوطنية في المنطقة العربية والإسلامية، وهذا المشروع يمهد لقيام دولة يهودية تحوم في فضائها دول دينية وطائفية، وقد بدأ التنفيذ في العراق الذي لم يعرف على مر ألف وأربعمائة عام خلافاً بين المسيحية والإسلام شأنه شأن سوريا التي لا يستطيع المرء فيها أن يجد أي تمييز بين المسلم والمسيحي، فهما يعيشان ثقافة واحدة ورؤية واحدة ويعملان في إطار الانتماء الوطني والعربي، وما نزال نجد في رئاسة فارس الخوري لوزراء سوريا وفي مواقفه الوطنية التي تجسد الإخاء والثقة إلى درجة أنه كان المسؤول عن الأوقاف الإسلامية، نموذجاً نقتدي به في الولاء للوطن وللعروبة مع الاحترام الكامل للأديان التي تؤكد على حرية الاعتقاد. وإذا كانت المسيحية العربية تجد نفسها أقرب إلى الإسلام منها إلى اليهودية فإنني أتذكر قول الأب سهيل قاشا في كتابه "المسيح بين التلمود والقرآن"، حيث يقول "مع من نتعامل؟ هل مع أصحاب التلمود الذين يتكلمون عن شخص المسيح وعن مريم العذراء كلمات بذيئة، أم نتعامل مع الذين يمجدون المسيح وهو في القرآن كلمة الله ومن روحه، وأمه البتول مصطفاة على نساء العالمين؟"، ويقول: "لن يرتاح الصهاينة الذين خربوا العالم، إلا إذا اجتثوا المسيحية من هذه المنطقة العربية". وإزاء ما أقرأ من مقالات وتعليقات وتضامن إسلامي مسيحي مفرح في الشارع المصري والعربي، أتذكر قول الله تعالى عن النصارى (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ، وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ..) نعم، إنهم أهلنا الأقربون، وهم الأصلاء في بلادنا، نحن منهم وهم منا، ننتمي معاً إلى العروبة الرحبة التي ولدت في أرضها الأديان، واحترمت كل العقائد الإنسانية.