عندما زار الرئيس الأسبق جون كنيدي مدينة دالاس في نوفمبر من عام 1963، استقبلته إحدى الصحف بصفحة إعلانية كاملة تتهمه بأنه شيوعي متسكع. وتعليقاً على تلك التهمة، قال كنيدي لزوجته ساخراً ومازحاً: أتعلمين أننا نتجه نحو مدينة مخبولة؟ وعلى حد قول المؤرخ ويليام مانشستر فقد كانت مدينة دالاس معقلاً للجمعيات اليمينية المتطرفة التي يقودها أشخاص معروفون بتشددهم مثل "مينتمان" و"جون بيرش" و"باتريك هنري". وبعد ساعات فحسب من مصرع كنيدي على يد أحد القناصة، رجح مستشارو الرئيس أن يكون القاتل أحد اليمينيين الراديكاليين. وعندما أخبر روبرت كنيدي "جاكلين"، السيدة الأولى وأرملة الرئيس القتيل، عن الخلفية اليسارية للقاتل "لي هارفي أوزوالد"، كادت تتقيأ مما سمعت وقالت معلقة إنه: ليس له من رصيد يذكر حتى في مجال الدفاع عن الحقوق المدنية. ولابد من أن يكون القاتل شيوعيّاً متطرفاً. ولكن، في نهاية الأمر، توصلت لجنة "وارن" التي حققت في أسباب ودوافع مقتل الرئيس إلى عدم وجود أي صلة بين حادثة الاغتيال وجو الكراهية العامة السائد في المدينة للرئيس المغدور كنيدي. ومهما يكن فإن من طبيعة النفس البشرية أن تستثمر مشاعر الحزن في محاولة ما لإعطاء فائض معنى للمأساة وللحزن الناشئ عنها. وفي هذا السياق فقد توصل المؤرخ مانشستر، الذي أرخ لليوم الأخير من حياة كنيدي، إلى القول: إذا ما وضعنا كنيدي على إحدى كفتي الميزان، ووضعنا في الكفة المقابلة ذلك البائس "أوزوالد" الذي قتله، فسيكون الفارق كبيراً بين وزني الشخصيتين، ولن تتعادل كفتا الميزان إلا بوضع حمل أثقل بكثير من "أوزوالد". واليوم فإن حادثة إطلاق النيران في ولاية أريزونا، وما نتج عنها من مصرع عدد من الأشخاص، تحتاج هي الأخرى لإعطائها معنى ما. فقد كانت تلك الحادثة أول محاولة جادة تستهدف حياة شخصية مسؤولة فيدرالية، إضافة إلى ما يعنيه إطلاق الرصاص أيضاً على قاضٍ فيدرالي. كما قتلت في الحادثة ذاتها طفلة ولدت في يوم هجمات سبتمبر الدامية المشؤومة. ولاشك أننا نريد لكل هؤلاء الضحايا أن تعادلهم في كفة الميزان الأخرى شخصية أثقل بكثير من وزن الريشة الذي يمثله "جاريد لوجنر" مطلق النيران في أريزونا. وقد أظهرت الفحوص الطبية التي أجريت على قاتل أريزونا هذا "لوجنر" أنه يعاني من حالة عصابية واضطرابات عقلية جسيمة. ولكن يبدو أنه أسهم في تفاقم تلك الحالة بانحرافاته الخاصة وبنزوعه إلى العدمية الأخلاقية، وتشربه بنظريات المؤامرة، إضافة إلى تعاطي بقية المهلوسات الأخرى. وليس مستبعداً أن يسهم الأفراد أنفسهم في تدمير ذواتهم وضمائرهم تدريجيّاً في ظل غياب مرض عضوي معين يعانونه. وبهذا المعنى، فربما تكون الأصوات التي يسمعها "لوجنر" صادرة عنه هو نفسه. ولكن ليس بالضرورة أن تكون للجريمة التي ارتكبها "لوجنر" أية تضمينات سياسية. فقد سارع بعض منتقدي الاستقطاب السياسي الحزبي من الليبراليين إلى اتهام خصومهم اليمينيين المتطرفين، بالضلوع في حادثة إطلاق النيران، اعتماداً على بينات ظرفية ضعيفة جدّاً. والحقيقة أن في مثل هذا السلوك تعبيراً عن تطرف ونزعة استقطابية. بيد أن في الإمكان تهدئة غضب اليمينيين من مثل هذه الاتهامات بالاعتراف بقدرة كثيرين منهم على التسرع لإطلاق اتهامات مشابهة لخصومهم الليبراليين في ظروف أخرى مختلفة نوعاً ما. ولنفترض مثلاً أن أحد اليساريين المعزولين، ممن تربطهم صلة هامشية بأي من المنظمات الليبرالية مثل منظمة "إيكورن"، أطلق النيران على عضو "جمهوري" في الكونجرس. فهل كان "الجمهوريون" سيسكتون عنه أو يتعاملون مع جريمته على أنها حادثة معزولة لا علاقة لخصومهم الليبراليين بها؟ وعلى نقيض حالة الاستقطاب السياسي الحاد هذه بين المحافظين والليبراليين، ينبغي القول إنه ليس من عادة المواطنين الأميركيين العاديين أن يجرموا جماعة بكاملها، بفعل فرد واحد من أفرادها، ما لم يكن هذا الفرد منتميّاً إلى حركة "حفل الشاي" أو أحد المهاجرين أو ليبراليّاً أو محافظاً أو أو متطرفاً... وغيرها من المظلات العامة المكروهة حقيقةً. وبهذا يجب القول إن توجيه اتهامات تبسيطية سياسية ساذجة لجهات أو جماعات يعتقد أنها وراء حادثة أريزونا هذه بصورة ما، يعد سلوكاً مدمراً ولا جدوى منه. غير أن نقص السببية لا ينفي وجود معنى للحادثة. فهناك شخصيات محرضة، وقدمت مساعدات عديدة للقاتل ومطلق النيران، بمن فيها "دانيل هيرنانديز" الذي ادعى أنه معالج حربي ميداني. وهناك خطر كامن في نموذج شخصية "لوجنر". فآراؤه الشخصية تعكس بعض أعراض الذهان والوسواس العقلي، غير أنها تعكس في الوقت نفسه انعكاساً مشوهاً لأية أيديولوجية، يمينية كانت أم يسارية، تسيطر عليها النقمة ونظريات المؤامرة وأوهام التعرض لمشاعر الكراهية والاضطهاد من الآخرين. والحقيقة أن "لوجنر" يعيش في وسط هذا المشهد الأيديولوجي، الذي تختلط فيه السياسة بالجنون، في حين يبقى الآخرون من حوله في حواشي وأطراف المشهد نفسه. وليس مستغرباً أن يكون كتاب "البيان الشيوعي" وكذلك "كفاحي" لهتلر من بين الكتب المفضلة لـ"لوجنر" في أرفف مكتبته الشخصية المتواضعة. وقد يكون غريباً جداً أن يكون من بينها أيضاً كتاب يحمل عنوان "قتل الطائر الغرّيد". فهذه هي الحالة التي يختلط فيها الجنون بالسياسة وتؤدي بالمرء إلى أن يكون له من الجرأة -مستعيناً ببعض المخدرات المغيبة للوعي- ما يمكنه من تصويب بندقيته إلى رؤوس الأطفال. وهذا هو الإنجاز الوحيد لـ"جاريد لوجنر" إن كان لهذا أن يسمى إنجازاً! مايكل جيرسون كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبرج نيوز سيرفيس"