كما قال إدوارد سعيد عن انطلاق الاستشراق من نظرة توراتية تضع ماضي الشرق في سياق مستمد من الرواية التوراتية، كذلك أيضاً يقول محمد الأسعد عن المستشرقين الآثاريين في كتابه "مستشرقون في عالم الآثار"، حيث يقدم وجهاً آخر للاستشراق متمثلاً في علم الآثار القائم على الرؤية اللاهوتية التوراتية، ويتناول "المشكلة التوراتية"، و"طريق العطور"، و"الجغرافيا السياسية للثقافة العربية"، و"ميلاد تاريخ فلسطين القديمة". وكما يذكر المؤلف، فقد بلغ الهوس بالنص التوراتي لدى المستشرقين في علم الآثار حداً دفعهم إلى جعل موضوع تقصيهم وتنقيباتهم المكان الممتد من الهند إلى إسبانيا ومن جنوب روسيا إلى جنوب الجزيرة العربية، والزمن الممتد منذ عشرة آلاف عام قبل الميلاد؛ فأطلقوا على هذا الزمان والمكان "الخياليين" اسم أرض وعهد التوراة. وإلى جانب البعد النصي المهيمن على الاستشراق الآثاري، يتطرق المؤلف أيضاً إلى ما سماه كاتب أميركي "البعد الاستعماري لعلم الآثار"، فيذكر الدور الذي لعبته البعثات الأثرية التي تدفقت من الغرب على فلسطين عقب وقوعها تحت الاحتلال العسكري البريطاني عام 1917. وقد تركز اهتمام هذه البعثات على "الخلفية التاريخية للتوراة"، فألهبت بتقاريرها، والتي كانت تأتي في إطار توراتي وتختلق روابط بين المدن والقرى الفلسطينية وبين أسماء وأحداث توراتية، مخيلة الجمهور الغربي، وصورت إقامة كيان يهودي استعماري في فلسطين على أنها تجسيد للرؤيا التوراتية والوعد الإلهي! ولم يتوقف الأمر على إقامة علاقات نسب لفلسطين بالتاريخ التوراتي، بل كان الآثاريون التوراتيون كلما ظهرت آثار مدن في العراق أو اليمن أو تركيا أو مصر أو فارس... يسارعون إلى نسبة فنون هذه المدن ولغاتها وعقائدها إلى التوراة. ويحاول المؤلف الإجابة على السؤال الرئيسي لكتابه: كيف قرأ المستشرقون الآثاريون الألواح وكتبوا التاريخ؟ وهنا يستعمل الأسعد مهارته البحثية العالية، ومعارفه الواسعة كمؤرخ وروائي وشاعر وناقد أدبي، فيتوقف عند لحظة خاطفة في الاستشراق الألماني، لكن لا يكاد يوجد لها مثيل في الاستشراق الغربي عامة، وقد تجلت مع "فريدريك ديليتش" في كتابه "بابل والكتاب المقدس"، الصادر أوائل القرن الماضي، والذي ذهب فيه إلى أن "العهد القديم" ليس إلا "نسْخاً للحكمة الأشورية". كما حاول مستشرقون ألمان آخرون -مستعينين بمناهج فقه اللغات المقارن- تحرير الرؤية العلمية من قبضة اللاهوت. لكن رغم ذلك، يقول المؤلف، لم يتغير شيء وصولاً إلى زمننا الراهن، حيث نرى خلال حلقة نقاشية عُقدت في باريس برعاية "اليونسكو"، تركيزاً على العلاقة بين بابل والتوراة، وبتعابير وقراءات توراتية تركز على موضوع النفي وعلى النص التوراتي... وكأن لا شيء قد تغير رغم الكم الهائل من السجلات التي أظهرها التنقيب في مواطن الحضارات القديمة، بل سيتواصل ذلك التقليد الذي لا يرى جغرافيا وزمان العالم القديم إلا منسوبين للتوراة، كما يتضح من الكتب المنشورة حول نتائج التنقيب في فلسطين وسوريا والعراق وجنوب الجزيرة العربية، لكل من "فلاندرز بيتري" و"ويندل فيلبس" و"ويليام أولبرايت" و"ليونالد وولي" و"كاثلين كينون" و"سانت جون فيلي"... على سبيل المثال لا الحصر. ويستنتج المؤلف من الربط المسبق بين سعي علم الآثار والغاية التي تسبقه، أي تأكيد "توراتية العالم"، أن باحثي هذا الحقل "المعرفي" وقعوا منذ البداية في خطأ منهجي جسيم قادهم إلى رسم مجريات للتاريخ وأحداثه من منظور "رؤيا" مسبقة و"إحساس" بهدف تسعى إليه. ويورد الكاتب أمثلة على التأويلات اللغوية العجيبة التي اعتمد عليها أولئك الباحثون في قراءة الآثار، إذ لا يكادون يجدون حرفاً أو نصف كلمة على لوح مطمور في الأرض حتى يهرعوا إلى الجمهور الغربي صارخين: "لقد وجدنا أثراً لبني إسرائيل"! ومن طرائف ذلك ما حدث مع الأميركي "ويندل فيليبس" خلال تنقيباته في جنوب اليمن، حيث قرأ اسم "علي" في نقش بالخط المسند، ولأنه لا يجد صوتاً مكافئاً في لغته لصوت حرف العين، ولأن التصويت العبري كان هاجسه الأساسي، فقد لوى الكلمة بلسانه وقرأها "إيلي". المراد إذن، كما يقول الكاتب، هو إيجاد أي أثر لبني إسرائيل في النطاقين، المكاني والزماني المذكورين أعلاه، علاوة على الميل إلى رؤية الشرق من مركز غربي وإعادة تركيبه، تاريخاً وحضارة وجغرافيا، وفق رواية منقولة بأخطاء لغوية في الترجمة وفي فهم المجتمعات القديمة في المنطقة. هذا أصلاً إلى جانب افتقاد اليقين في البحوث الآثارية بشكل عام، والتي يغلب الظن والتخمين والافتراض على كثير من استنتاجاتها، حيث يعمد الآثاريون إلى استخدام خيالهم لملء فراغات الشواهد الأثرية، كي يكملوا السياق ويقدموا قصة تاريخية متكاملة وقابلة لـ"الفهم"! محمد ولد المنى الكتاب: مستشرقون في علم الآثار المؤلف: محمد الأسعد الناشر: الدار العربية للعلوم تاريخ النشر: 2010