"النقود لا تتكلم، النقود تسّبُ وتلعن"، تقول ذلك الأغنية الشعبية الأميركية. والنقود التي أُنفقت على الأمن والنظام في العراق تلطم صدرها وتشق جيبها. مجموع إنفاق واشنطن وحدها يقترب حثيثاً من حاجز الترليون دولار، الذي سخرت منه الإدارة الأميركية السابقة عندما أعلنه جوزيف ستغليتز، الحاصل على "نوبل" بالاقتصاد. والمبلغ بالتحديد حتى أغسطس الماضي، 709 مليارات دولار، حسب مكتب الموازنة في "الكونجرس الأميركي". وهذا هو إنفاق واشنطن الفعلي على دفاعها وأمنها ودبلوماسيتها في العراق منذ عام 2000، وليس الكلفة الاقتصادية والسياسية والأخلاقية للاحتلال. والمرجح أن تؤمِّن الأجهزة العراقية الأمنية العاملة تحت المظلة الجوية الأميركية عقد القمة العربية في بغداد دون انتهاكات خطيرة. وعقد القمة بغض النظر عن سيرها ونتائجها خطوة بالغة الأهمية لتأمين الأمن الإقليمي لبلد لعب أدواراً تاريخية في ازدهار العالم العربي والإسلامي. إنه الخطوة الأولى لتحقيق الأمن الداخلي في البلد الذي جعل واحداً من كل سبعة مواطنين تحت السلاح، والتخلص من نظام سياسي مجزء، إثنياً وطائفياً، وقوات مسلحة مشتتة الولاءات، ومشكوك في قدرتها على ضمان أمن المواطنين. وأسباب التفاؤل كبيرة إذا تذكرنا بأن الولايات المتحدة هي التي زعزعت أمن البلد "بالتركيز المفرط على تشكيل وحدات أمنية كبيرة دون مراعاة كافية لانسجامها وتماسكها". يذكر ذلك تقرير "مجموعة الأزمات الدولية" حول "قوات الأمن العراقية بين تخفيض عدد القوات الأميركية وانسحابها". وحذّرت المجموعة من "مخاطر بلقنة قوات الأمن" عند انسحاب القوات الأميركية التي كان وجودها الكثيف في سائر مفاصل الجهاز الأمني والنظام السياسي يحافظ على تماسكها. وإذا كانت هذه حسب المصطلحات السياسية الدارجة "استحقاقات" اجتثاث الجيش العراقي، فالتاريخ الذي يسير دائرياً في العراق قد جمع هذا الشهر المجتثين ومن اجتثهم في الاحتفال بمرور تسعين عاماً على تأسيس الجيش. ذلك لأن الاجتثاث غريب عن بلد حافظ على قوات الجيش والأمن حتى عند إسقاط النظام الملكي عام 1958. واكتفى النظام الجمهوري الذي حلّ محله آنذاك بإزالة القيادات العليا في الحكومة والجيش، ومحاكمة من اعتبرهم مسؤولين عن جرائم الفساد والتعاون مع الأجنبي وانتهاك حقوق الإنسان. وقضى البلد نصف قرن يعالج بأساليب ذكية أو خرقاء، ناجحة أو فاشلة، رجع الزلزال الذي يكتنف حتى اليوم الوعي السياسي الوطني. وها نحن نشهد منذ سبع سنوات كيف تتراكم النصال على النصال في وعي بلد يكافح بمرارة لاستعادة استقلاله الأمني، الذي حافظ عليه في أتعس الظروف. تشير إلى ذلك المقارنة التالية لقوة العراق وإيران قبل وبعد الاحتلال: في عام 2003 كانت قوة الدروع لدى العراق تضم 2200 دبابة مقابل 1563 لإيران، عددها الآن لدى العراق 149 مقابل 1631 لإيران. عدد الطائرات المقاتلة لدى العراق عام 2003 كان 316 مقابل 283 لإيران، عددها حالياً صفر لدى العراق مقابل 312 مقاتلة لإيران. وهذه أحدث الأرقام الرسمية الأميركية المتوفرة في تقرير "التحديات الوطنية التي يواجهها العراق" الذي وضعه أنتوني كوردسمان، أستاذ "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية" في واشنطن. ويدرك العراقيون أن التوافقات السياسية الحالية التي دفعوا ثمنها غالياً بالمال والأرواح قامت على التشطيرات المذهبية والعرقية في أجهزة الدفاع والأمن التي يبلغ عدد أفرادها نحو نصف مليون. ويكشف التقرير 35 مكمناً للخطر في هياكل البلد الأمنية التي ينبغي علاجها، بدءاً بتمويل مستوياتها الدنيا، مثل "بوليس النفط" المقرر زيادة عدد أفراده من 29 ألفاً إلى 45 ألفاً، و"بوليس الكهرباء" (18 ألفاً)، ومصلحة حماية الخدمات العامة (120 ألفاً). ويفتقر البلد إلى خطط لإنشاء قوات مسلحة للردع والدفاع، وتحديد حجمها المستقبلي، عدداً وعدة، وتحديد مصادر استيراد السلاح، والتدريب، والاستشارات. فالطريق لتحقيق ذلك ملغومة بالانقسام الطائفي، والإثني، والفساد، والجريمة المنظمة، والإرهاب. ولم يتخذ النظام القائم حتى الآن قرارات حاسمة بصدد شراكته الاستراتيجية مع أميركا، وعلاقاته بإيران وتركيا وسوريا ودول الخليج والعالم العربي. ويعجز النظام القائم عن تقدير عجزه عن حل مشاكله، ووضع خطط لمواجهتها وتحديد أولويات حلها. فهو يتأرجح بين إنكار وجود هذه المشاكل ووضع خطط مفرطة الطموح يستحيل تمويلها في ظروف الأزمة المالية التي يعانيها، وفقدان المساعدات الخارجية بسبب الوضع الاقتصادي للدول المانحة. وتشكك الأزمة الاقتصادية للعراق وأميركا في فرص الشراكة الاستراتيجية نفسها، والتي تحتاج إلى تمويل نفقات ما قيل إنها أكبر سفارة أميركية في العالم مقرها بغداد، وقنصليتين في أربيل والبصرة، إضافة إلى مكتبين في كركوك والموصل. ولم يوافق الكونجرس الأميركي سوى على نصف "موازنة القوات الأمنية في العراق" للسنة الحالية، وتبلغ ملياري دولار، وهذا يعني "شل الجهود لإنشاء أي شراكة استراتيجية حقيقية". فالخطة تحتاج في المتوسط إلى ثلاثة مليارات دولار سنوياً للفترة بين عامي 2012 و2017 حتى يصبح العراق "شريكاً استراتيجياً حقيقياً للولايات المتحدة". والمطلوب من العراق خلال ذلك إيجاد وسائل لمعالجة أزمة الموازنة المالية المستعصية منذ عام 2009 والتي بلغ عجزها عشرة مليارات دولار عام 2010، وعليه إنجاز ذلك بطرق تحقق التوازن الأمني بين المصالح الإثنية، والطائفية، والإقليمية. وعليه السيطرة على ضغوط اقتصادية مستفحلة تسببها البطالة وتدني معدلات الدخل الفردي التي انحدرت بالعراق إلى المرتبة 159 بين دول العالم، فيما تحتل إيران المرتبة 87 والسعودية 60 والكويت 7 وقطر المرتبة الثانية. وعلى العراق معالجة الفروق الفادحة في توزيع الدخل، والتي أوجدتها المصالح الخاصة، والإثراء غير المشروع من الحرب، وأن يأخذ بالاعتبار آثار النمو السكاني ستة أضعاف، من خمسة ملايين عام 1950 إلى نحو 30 مليونا عام 2010 والزيادة المتوقعة إلى 40 مليونا عام 2025. وعندما يُعاملُ بلد عريق كالعراق ومواطنيه معاملة الشقاة الخارجين على القانون، يلقى المتعاملون معهم بالمقابل معاملة الثقاة. وهذا ما ناله ليس المحتلون والمتعاونون معهم فقط، بل نالته "الأمم المتحدة" في بلد هو أحد أعضائها المؤسسين. واضطر "مجلس الأمن" في الشهر الماضي للموافقة على إنشاء ثلاث وحدات أمنية مسلحة في العراق لتأمين حماية الأمن الشخصي لموظفي "الأمم المتحدة" وحراسة مقراتها. تعمل الوحدات التي تضم 480 عنصراً عسكرياً على مراقبة الدخول إلى مقرات المنظمة، وتسيير دوريات داخلها، والحراسة الأمنية المتنقلة لحماية حركة موظفيها خارج المقرات!