كل الجماعات الدينية التي استولت على الحكم في بلادها سارعت إلى تطبيق فرع من فروع الشريعة ألا وهو العقوبات، أما إيجاد نظام إسلامي يقوم على العدل والخير والحرية، فهذا ما لم يحدث قط. وتسبّب هذا في تحريف معنى الشريعة في الأذهان، وأصبح بعضهم كلما قرأ قوله تعالى: "ومَن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"، تخيّل أشخاصاً يُرجمون وتُقطع أيديهم وتجلد ظهورهم، ويتوهم أنه ما دامت القوانين المعمول بها لا تحكم بمثل تلك العقوبات، فهي ليست من عند الله وإنما من وضع البشر. ومن المهم التوضيح أن قوانين العقوبات في أغلب الدول العربية والإسلامية تنص على أنه تسري أحكام الشريعة الإسلامية بشأن جرائم الحدود (الزنا، والقذف، وشرب الخمر، والسرقة، والحرابة، والردّة، والبغي)، وجرائم القصاص والديّة (القتل العمد، والقتل شبه العمد، والقتل الخطأ، والجناية على ما دون النفس عمداً، والجناية على ما دون النفس خطأ). وهذه هي الجرائم الوحيدة التي وضعت لها الشريعة عقوبات، وكل ما عداها من جرائم متروكة لتقدير ولي الأمر حسب الظروف والاعتبارات والمصالح العليا، لعدم وجود حكم شرعي فيها، وتسمى جرائم التعزير (التأديب)، كالسبّ والإتلاف والتزوير والرشوة وخيانة الأمانة والبلاغ الكاذب وإزعاج السلطات وانتحال صفة الغير وإساءة استعمال السلطة وغيرها الكثير. وكلما تعذر تطبيق الحدود أو القصاص، لوجود شبهة ما، أو لعدم توفر الأركان الشرعية للجريمة، فإن الواقعة تعامل باعتبارها من جرائم التعزير، ومن ثم تطبّق العقوبات التي يقررها القانون، كالإعدام والسجن والحبس والغرامة. ولنأخذ جريمة الزنا مثالاً على تحوّلها من جريمة حدّية عقوبتها الرجم، إلى جريمة تعزيرية الحكم فيها متروك لولي الأمر أو القوانين الوضعية، فهذه الجريمة لا تستوجب الرجم إلا بشروط كثيرة اختلف عليها الفقهاء اختلافاً شديداً. ومن يقرأ في جريمة الزنا وفق الشريعة، فإنه سيصاب بالدوار والضياع بين الآراء الكثيرة والمتضاربة في كل ركن وجزئية، فهم مختلفون في تعريف الوطء، وفي بقاء البكارة من عدمها، وفي شروط الزاني والزانية، وفي القصد الجنائي والجهل بالتحريم، وفي الستر على الجريمة، والإخبار عن الزنا، وإثباته، وطرق انقضاء دعواه، وفي تجريح الشهود، واقتناع القاضي بالشهادة من عدمها، وجزاء جريمة الزنا، وطرق تنفيذ العقوبة، وغيرها الكثير من التفاصيل بحيث لا يمكن الجمع بين تلك الآراء وتنفيذ حد الرجم من الأساس. والأمر الآخر أن الشريعة هي في نهاية المطاف آراء فقهاء اعتمدوا في آرائهم على الأدلة الشرعية حسب أفهامهم، وليست الشريعة كما يُتصوّر منزّلة بتفاصيلها من السماء، نعم هناك خطوط عامة ومقاصد إلهية، لكن التفاصيل هي آراء لفقهاء، وهم مختلفون وليس بينهم إجماع واضح، حتى بين أئمة المذهب الواحد. ومثلما هناك شبهات واختلافات كثيرة في جريمة الزنا، فإن الحال كذلك في بقية جرائم الحدود والقصاص بحيث يكون اللجوء إلى التعزير على هذه الجرائم أسلم، وهو الحاصل فعلاً على أرض الواقع، فكلما امتنع توقيع عقوبة القصاص، كالقتل العمد مثلاً، أو امتنع توقيع عقوبة الحد، كالسرقة والقذف مثلاً، إما لوجود شبهة، أو لعدم توفر أركان الجريمة وفق الشريعة، فإن الجاني يعزّر وفق القوانين العادية، خصوصاً أن الحديث النبوي يقول: "ادرؤوا الحدود بالشبهات"، وبعض العقلاء يرى أن عصرنا عصر شبهة عامة.