تعتبر صناعة الرعاية الصحية واحداً من أضخم القطاعات الاقتصادية حجماً وأسرعها نموّاً في جميع دول العالم دون استثناء تقريباً، وبشكل يجعل الرعاية الصحية أحد أهم أجزاء مكونات الاقتصاد الوطني والعالمي. وتتضح هذه الحقيقة من استحواذ نفقات الرعاية الصحية على 10 في المئة من الناتج القومي الإجمالي للدول الغنية والصناعية، وهي نسبة ترتفع أحياناً لتزيد عن 15 في المئة من الناتج القومي، كما هو الحال مع الولايات المتحدة، التي تحتل رأس قائمة الدول الأكثر إنفاقاً على الرعاية الصحية. وبخلاف الولايات المتحدة، نجد أن بعض الدول الأوروبية، مثل ألمانيا وسويسرا، تنفق أيضاً أكثر من 10 في المئة من ناتجها القومي السنوي على الرعاية الصحية، ضمن متوسط إنفاق لدول منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي (OECD) يقارب 9 في المئة من الناتج القومي الإجمالي للدول الثلاث والأربعين الأعضاء في هذا النادي الخاص بأكبر وأغنى اقتصادات العالم. وإذا ما وضعنا في الاعتبار حجم الاقتصادات سابقة الذكر يمكننا حينها أن نستنتج -بشكل تقريبي- حجم الإنفاق العالمي على الرعاية الصحية. فالولايات المتحدة، التي يقارب الناتج الاقتصادي الوطني فيها 15 تريليون دولار، تنفق سنويّاً 2.2 تريليون دولار على الرعاية الصحية، أو ما يعادل 15 في المئة من الناتج الاقتصادي، مع توقع ارتفاع هذه النسبة إلى 20 في المئة مع حلول عام 2016. وهو ما يعني أن كل رجل، وكل امرأة، وكل طفل في الولايات المتحدة، يتحمل حاليّاً نفقات سنوية للرعاية الصحية تقارب 7500 دولار، مع توقع أن تزداد نفقات الرعاية الصحية على كل مواطن أميركي، لتقارب 13 ألف دولار سنويّاً بحلول عام 2016. وإذا ما نظرنا إجمالًا للناتج الاقتصادي العالمي، الذي يتراوح ما بين 60 إلى 70 تريليون دولار، ينفق في المتوسط 10 في المئة منها على الرعاية الصحية، فسنجد أن مجموع نفقات الرعاية الصحية من المنظور الدولي، يزيد عن 5 تريليونات دولار سنويّاً، وهو ما يمنح صناعة الرعاية الصحية دوراً أساسيّاً في تحفيز النمو الاقتصادي، أو في فقدان التنافسية في الأسواق العالمية، وبالتالي زيادة البطالة وتثبيط النشاط الاقتصادي إلى درجة قد تصل أحياناً للركود والانكماش. وتتعرض نظم الرعاية الصحية حول العالم حاليّاً لضغوط شديدة نتيجة عوامل عدة، منها الزيادة المستمرة في عدد السكان، وارتفاع متوسط أعمار الأفراد ضمن ظاهرة تشيخ المجتمعات والانتشار الواسع للأمراض غير المعدية مثل السمنة والسكري وأمراض القلب، واتساع النطاق الجغرافي لهذه النوعية من الأمراض نتيجة ظاهرة العولمة والتغيرات المناخية، بالإضافة إلى ارتفاع تكلفة التقنيات الطبية الحديثة، وبشكل غير مبرر أحياناً. وكل هذه العوامل مجتمعة تهدد العديد من نظم الرعاية الصحية بالانهيار المالي وتدفع بقضية التمويل الصحي إلى رأس قائمة الأولويات السياسية والاقتصادية للعديد من الدول والمجتمعات. فبالنظر إلى الضغوط التي تتعرض لها حاليّاً نظم الرعاية الصحية وارتفاع نسبة مخصصات التمويل من مجمل الناتج القومي، أصبحت قضية تمويل الرعاية الصحية، وخصوصاً في الدول النامية والفقيرة، من أهم العقبات التي تهدد جهود مكافحة الفقر، وتبطئ من معدلات التنمية. وحتى في الدول الصناعية والغنية يعكف السياسيون والاقتصاديون حاليّاً على البحث عن إجابة لأسئلة ملحة تتعلق بالرعاية الصحية، وتهدد نموذج "دولة الرفاه" برمته، مثل كيفية إيجاد المصادر المالية الكافية لتمويل الرعاية الصحية؟ وأفضل طريقة لتخصيص وتوزيع هذه المصادر بشكل كفء وفعال ودون هدر؟ وكيف يمكن إيصال هذه الرعاية إلى فقراء المجتمع، وفقراء العالم بوجه عام؟ يرى البعض أن إجابة هذه الأسئلة ممكنة من خلال نظم رعاية صحية ممولة من المال العام، بالترافق مع صناعة رعاية صحية تعتمد على أموال مستثمري القطاع الخاص، وتخدم القادرين ماديّاً من أفراد المجتمع. وهذا النظام الثنائي في تقديم خدمات الرعاية الصحية، الموجود بالفعل حاليّاً في الكثير من دول العالم، يثير دائماً المقارنات بين طرفيه العام والخاص، من ناحية مستوى الرعاية الطبية، وكفاءة الإدارة، ومدى قيمة العائد النهائي، مقارنة بحجم ما ينفق من أموال في كلا النظامين. وربما كانت أقوى الحجج وأكثرها استخداماً من قبل مؤيدي الرعاية الصحية الحكومية هي حجم القصور والعيوب الموجودة في النظام الوحيد المعتمد فقط على القطاع الخاص، والموجود في الولايات المتحدة، حيث يتميز نظام الرعاية الصحية هناك باعتماده شبه التام على القطاع الخاص، بينما يتراجع دور الحكومة أو القطاع العام إلى أقل حدوده على الإطلاق. فنظام الرعاية الصحية الأميركي، يحقق دائماً مستوى أقل من المعدل العام لباقي النظم الصحية الحكومية حول العالم، على صعيد الكثير من القياسات التي تقـيم من خلالها جودة الرعاية الصحية، مثل معدل الوفيات بين المواليد الجدد، ومتوسط طول العمر، وفرص الشفاء من الأمراض السرطانية، على رغم أن نظام الرعاية الصحية الأميركي يعتبر الأكثر تكلفة والأفضل تمويلًا حول العالم. أما المؤيدون لدور أكبر للقطاع الخاص في الرعاية الصحية فيشيرون إلى الفشل المتكرر لنظم الرعاية الصحية الحكومية في تحقيق معايير مقبولة من الكفاءة الإدارية، وتدني مستويات الجودة الفعالية الفنية بها، وتميزها بنسبة غير مقبولة من الهدر المالي. وأمام هذا الجدل المستمر والمحتدم تظل قضية نظم الرعاية الصحية، وسبل تمويلها، وكيفية رفع كفاءتها، والارتقاء بمستوياتها التقنية، من القضايا التي تؤرق دائماً صناع القرار، وتقض مضاجع الاقتصاديين، والعديد من أفراد المجتمع الطبي.