برزت العروبة كتيار سياسي في خمسينيات القرن المنصرم، بالاستناد إلى جملة عوامل وأسباب وجدت فيها مبررات وجودها. وروجت العروبة السياسية لفكرة القومية العربية بتأثير جمال عبد الناصر وميشيل عفلق وساطع الحصري وزكي الأرسوزي وغيرهم من قادة "البعث" و"الناصرية". وما أشعل لهيبها خروج الدول العربية تواً من هيمنة الاستعمار التقليدي واحتلال فلسطين بمباركة بريطانيا والمنظومة الدولية، واستمرار معاناة الشعب الفلسطيني وامتزاج الهم العروبي بآثار وانعكاسات الجرح الفلسطيني... فكان الشعار قوياً ومدوياً واستطاع طمس الأفكار والتيارات الليبرالية، لاسيما بعد أن فشلت الدول العربية في تحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي. لكن جاءت الأنظمة القومية لتخوض حروباً ولتجمّد المتغيرات الداخلية لصالح المعركة الخارجية، لكن أي معركة؟ هزائم ونكبات ونكسات على حساب كل تطور في البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية في هذه الدول. وبعد هذا الفشل ظلت العروبة السياسية مرفوعة كشعار أيديولوجي معبأ بشحنات عاطفية صارخة، فغطى ضجيجها على الأصوات المطالبة بالديمقراطية. والظاهرة الأبرز هي تماهي العروبة بأنظمة استبدادية استطاعت التمسك بهذا الشعار الذي ظل يدغدغ قلوب وأفئدة الجماهير البسيطة، واستمرت رحلة التماهي بين زخم الشعار وطاقته التهييجية معاً وسطوة السلطة وقدرتها على توظيفه. ورغم تحولات الألفية الجديدة فقد بقيت الأنظمة القومية مراوحة في مكانها، ووصلت الأمور حداً أصبحت فيها مستعدة للتخلي عن مضامين الشعار وليس الشعار نفسه، بعد أن استثمرته لصالح بقائها في الحكم، طالما أن مثل هذا التخلي لا يؤثر في استمرارها على توظيف الشعار ذاته. ويمكن اليوم تشبيه حال الدولة العربية بعلبة كرتون فارغة معلقة في أعلى سقف غرفة بواسطة قضيب معدني رفيع، هذه العلبة تبقى معلقة ما بقي السلك موجوداً، لكنها سرعان ما تنهار عندما ينقطع السلك لسبب أو آخر. ولن أشرح ما ترمز إليه علبة الكرتون ولا السلك المعدني، بل أترك للقارئ متعة التفكير والتمحيص في هذا المثال البسيط لكنه ذو دلالة قوية وصارخة. وكنموذج عملي لمثالنا ما حصل للنظام العراقي السابق عندما انهار كل شيء بفعل دخول القوات الأميركية إلى العراق. لم تكن في العراق دولة بالمعنى القانوني والمؤسسي، لذلك فهي لم تنهر وإنما كانت منهارة أساساً وممسوكة بقوى الأمن والقمع. إن بعض الأنظمة العربية تحاول عبر شعار العروبة البراق، وبكل ما أوتيت من إمكانات مادية ومعنوية، إدامة سيطرتها على شعوبها والتي تخلفت وتأخرت عن شعوب العالم، ولا يوجد أي أمل لها بالحرية والديمقراطية طالما أن وعيها المشوش يمنعها من إدراك حقيقة ما حصل لها خلال العقود السابقة، حيث لا تزال متأثرة بسطوة الشعار، وخائفة من التفكير بعقلانية خشية الاتهام بالعمالة، وإن لم تكن خائفة فهي خجلة من الاتهام. أما النخب الثقافية والفكرية فلم تملك بعد جرأة النقد وقول الحقيقة. ولا ننسى غياب دور المثقف الذي همشته الشعارات وأقصته عن موقع التأثير والفاعلية. ويبدو أن المواطن العربي البسيط، رغم الشعور بمرارة واقعه ورغم صدمته بهذا الواقع، ورؤيته للمفارقة الحضارية الرهيبة بين مجتمعاتنا ومجتمعات دول العالم... يركن للصمت والهدوء والنوم وهو يشعر في أعماقه ولسان حاله يقول كما قال غاليلو: "ومع ذلك فالأرض تدور"! ------ حواس محمود كاتب سوري ------ ينشر بترتيب مع مشروع "منبر الحرية"