عندما تقاعدت عن كتابة عمودي الصحفي في العام الماضي، نقلت ابنتي الخبر لابنها البالغ من العمر 7 سنوات. وبمجرد سماعه النبأ، أسرع إلى سماعة الهاتف واتصل بي قائلاً بحزم لا يشبه شخصية طفل يافع صغير: جدتي.. لقد سمعت أنك تقاعدت. فقلت له: ليس تماماً كما ظننت يا حفيدي. وبعد تلك المحادثة، صارعت أنا وابنتي لإخفاء سعادتنا بمدى سوء فهم الآخرين لتلك الخطوة التي اتخذتها، خاصةً وأنه يصعب تفسير ما حدث من سوء فهم على أساس لغوي فحسب. وفي الحقيقة فإن التقاعد عن العمل ليس سوى تعبير عن حالة من الإعياء والفتور. كما أن فيه عودة إلى الفكرة الاجتماعية القديمة القائلة إنه ليس على المرء أن يواصل العمل حتى يقع منكفئاً على وجهه في خريف العمر. غير أن الكتابة مهنة تختلف كثيراً عن حمل الأثقال. وعندما قررت التقاعد عن كتابة عمود صحفي منتظم، لم يخطر لي أنني سأهجر مهنة الكتابة إلى مجال عمل آخر، بل كانت الخطوة التي اتخذتها مجرد تعبير عن رغبة في تجريب مجالات أخرى من الكتابة. وهذه القناعة دفعتني إلى أن أقول لحفيدي بأنني لم "أتقاعد" بالمعنى الحرفي الذي فهمه، بل في اعتقادي أيضاً أنني لم "أفتر" بعد. وقد أصبحت حالة عدم الفتور هذه حالة عامة في أوساط الكثيرين من أبناء وبنات جيلي. ومما يسعدني أنني أمثل فرداً من أفراد جيل أميركي كامل عرف بامتيازه الاجتماعي الخاص، وكثيراً ما أشارت إليه الإحصاءات الرسمية على أنه الجيل الموعود بطول العمر. فمع بداية العام الجديد هذا، يكون قد بلغ المولود الأول من جيل الطفرة الإنجابية، الخامسة والستين عاماً. ويبلغ العمر ذاته نحو 10 آلاف من أبناء وبنات ذلك الجيل يومياً خلال السنوات التسعة عشر المقبلة. ونشكل نحن الجيل الرائد لما يسمى تفاؤلاً بطفرة المسنين. فخلال أقل من قرن ارتفعت فترة أعمار الأميركيين من 47 عاماً إلى 78 عاماً. وبحلول عام 2025 سوف يكون هناك 66 مليون أميركي تجاوزت أعمارهم الـ65 عاماً. كما أن القرارات التي نتخذها على نحو فردي وجماعي بشأن الطريقة التي نمضي بها هبة العمر الطويل هذه، سيكون لها دور كبير في إعادة تشكيل مجتمعنا. وهناك وجهتا نظر تتنافسان الآن فيما بينهما سلفاً فيما يتعلق برؤية "سنوات التقاعد الذهبية" السائدة من قبل. وقد وجدت أولاهما رواجاً كبيراً في عدد من الكتب التي تتحدث عن فكرة "العمر الثالث" و"الخطوة التالية" و"عمر النشاط الرشيد". ويتم الترويج لهذه الأفكار في شكل رسائل مشفرة يبعث بها مخططو وخبراء التقاعد، ويتم فيها تعريف التقاعد ليس على أنه نيل الفرد لحريته المالية من العمل، وإنما نيل الفرد حريته المالية من أجل توجيه نشاطه وطاقته إلى شيء آخر ذي قيمة ومعنى أكبر من الوظيفة التي كان يقوم بها خلال فترة عمله. وضمن وسائل الترويج لهذه الرسائل، هناك مضمون إعلاني شهير لشركة "ويلز فارجو" المتخصصة في التخطيط للتقاعد عن العمل، جاء فيه: "لطالما حلم ديف كثيراً بشيء واحد يروقه بعد تقاعده عن العمل: الاستمرار في العمل"! وهكذا أصبح مفهوم "مهنة ما بعد التقاعد" -التي كان يلتبس ويصعب فهمها حتى وقت قريب جداً على الكثيرين- مضموناً رئيسياً للرسائل التي تبعث بها الشركات المتخصصة في التخطيط للتقاعد. كما أصبح الباحثون عن عمل مثمر وذي معنى بعد تقاعدهم أو توديعهم لمرحلة معينة من مراحلهم العمرية والمهنية، محل احترام وتقدير كبيرين لدى الشركات المتخصصة المذكورة، أم لدى قطاعات واسعة من عامة الجمهور. وكثيراً ما نقرأ اليوم عن صاحب متجر متقاعد يخوض معركة شرسة ضد شركات الفحم الحجري بحجة أنها تسهم في تلويث البيئة وزيادة خطر التغير المناخي. كما نقرأ عن محام متقاعد أنشأ منظمة غير ربحية لمساعدة الأفغان على استزراع ثمانية ملايين شجرة...إلى آخره. ومما لا ريب فيه أن جيل الأربعينيات، الذي بلغ الآن العقد السادس من العمر، قد أحدث تغييراً كبيراً في الثقافة الاجتماعية والمهنية التي كانت سائدة قبله. كما أسهم هذا الجيل في الدفع بالكثير من القضايا المهمة مثل حقوق النساء والحقوق المدنية والحريات الشخصية والعامة. وفوق ذلك، فإن لهذا الجيل تاريخاً طويلاً من تقديم النموذج العملي المقنع لمعنى أن يعيش الإنسان حياة طويلة معمرة. غير أن لقصتي هذه عن حالة "عدم الإعياء والفتور" حقيقة أخرى تناقضها تماماً. فعلى رغم المزايا العديدة التي جاءت بها طفرة المسنين هذه، لا بد من الاعتراف بأنها حملت معها تحذيراتها ومتاعبها. فما أكثر التقارير التي نقرأها اليوم عن "تسونامي الشيخوخة" الذي غمر بأعباء تكلفته المالية الكبيرة نظام الضمان الاجتماعي و"ميديكير" المخصص لرعاية المسنين الأميركيين. والحقيقة أن المسنين هم المشكلة الآن. وقد بلغت تكلفة رعايتهم حداً جعل السيناتور السابق "ألان سيمسون" يصفهم في عبارة ساخرة له بأنهم "جشعون لا يشبع لهم نهم أبداً". وعندما نأخذ في الاعتبار بالظروف الاقتصادية الراهنة، فربما كان المقابل المنطقي لذلك المضمون الإعلاني لشركة "ويلز فارجو"، الذي يروج لسعادة العمل في مرحلة ما بعد التقاعد، هو المضمون المناقض لها القائل: "إن حلم ما بعد تقاعدي هو الاستمتاع الفعلي بالتقاعد". وبذلك يمكن القول إن لجيلنا حضوراً في كلا معسكري "الحرب" الثقافية الديموغرافية الدائرة في مجتمعنا الآن. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ إلين جودمان كاتبة أميركية متخصصة في الدراسات الاجتماعية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبرج نيوز سيرفس"