توافدت المفوضية الأوروبية بكامل أعضائها على بودابست يوم الجمعة الماضي، عشية تسلم المجر رئاستها الدورية للاتحاد الأوروبي، وقد جرى التسلم في أجواء صاخبة بالانتقادات الموجهة لقانون الإعلام المجري الجديد الذي دخل حيز التنفيذ في الأول من يناير الجاري. هذا إلى جانب انتقادات شاملة ضد طريقة رئيس الوزراء المجري فيكتور أوروبان في إدارة حكم البلاد، والتي جعلت معارضيه يتهمونه بالنزغة الشعبوية والتعصب القومي ويقارنونه بنظيره الروسي بوتين وبالرئيس البيلاروسي لوكاشينكو. وقد عكست أجواء انطلاق الرئاسة المجرية للاتحاد الأوروبي قلقاً بشأن أوروبان الذي عاد إلى السلطة العام الماضي بعد غياب دام ثماني سنوات، ليكون أول رئيس وزراء مجري يحكم على فترتين غير متتاليتين. بيد أنه في فترته الحالية أحكم قبضته على السلطة من خلال برلمان يتمتع حزبه، "تحالف الديمقراطيين الشباب" (فيديز)، بأغلبية ساحقة فيه، علاوة على ما يحظى به من دعم شعبي جارف. ولد أوربان عام 1963 بقرية "آلكسيتدوبوز" في منطقة "فيجر" بوسط المجر. وفي عام 1977 انتقلت عائلته إلى مدينة "زيكسفيرفار" في الشمال الشرقي حيث تلقى تعليمه الثانوي، قبل أن يلتحق بكلية الحقوق في جامعة بوادبست، حيث اضطر لتدبير مصاريف حياته بنفسه فعمل مدققاً لغوياً في مجلة للعلوم الاجتماعية أصدرتها الجامعة، فتأخر تخرجه ثلاث سنوات. لكنه تعلم اللغة الإنجليزية وحصل على منحة لدراسة تاريخ الأيديولوجيا الليبرالية في جامعة أوكسفورد، تحمل تكلفتها الممول جورج سوروس. وقد نال أوروبان شهرته كأحد مهندسي الإطاحة بالشيوعية في المجر؛ ففي 30 مارس 1988، وكان في الرابعة والعشرين، شارك في تأسيس "رابطة الشباب الديمقراطي"، وأفصح حينئذ عن خطاب يدعو لتبني الانتخابات الحرة، والخروج من الهيمنة السوفييتية، كما شارك في تظاهرات بودابست إحياءً لذكرى الهبة المجرية عام 1956. وبعدها بأشهر قليلة شارك في وفد المعارضة إلى حوار الطاولة المستديرة مع السلطات الشيوعية الحاكمة. وانتخب أوروبان نائباً برلمانياً عام 1990، في أول انتخابات تشريعية عقب انتقال المجر نحو التعددية الحزبية، وبعد ثلاثة أعوام أمسك بقيادة "رابطة الشباب الديمقراطي"، والتي تحولت في عام 1995 إلى حزب سياسي محافظ. وفي انتخابات عام 1994 حافظ أوروبان على مقعده التشريعي، بل أصبح حزبه ثاني أكبر قوة في البرلمان، قبل أن يحتل المركز الأول في انتخابات عام 1998 حيث حصل على 148 مقعداً من مقاعد البرلمان الـ386. وبالتحالف مع مستقلين وأحزاب من وسط اليمين، أصبح أوروبان رئيساً للحكومة في 16 يوليو 1998، ولم يكن عمره يتجاوز الخامسة والثلاثين. وخلال ولايته الأولى انتهج سياسة اقتصادية سعت لتقليص التضخم والبطالة وتخفيض الدعم الاجتماعي، واستطاع تضييق العجز المالي الذي ورثه عن حكومة تحالف اليسار برئاسة "غويلا هورن" (1994 -1998) إلى ما تحت الـ4 في المئة، وخفض التضخم من 15 في المئة عام 1998 إلى 8 في المئة عام 2001، ورفع معدل النمو الاقتصادي فوق حاجز الـ4 في المئة. كما أطلق إصلاحات على مستوى الإدارة العامة، وأرسى نظاماً للرقابة البناءة، وقام بضم المجر إلى حلف "الناتو". وبتلك الإنجازات استطاع حزبه "فيديز" أن يتصدر نتائج انتخابات 2002 التشريعية بـ188 نائباً في البرلمان، متقدماً بعشرة مقاعد على منافسه "الحزب الاشتراكي الهنغاري"، لكنه اضطر لمغادرة السلطة، حيث تحالف الاشتراكيون مع "تحالف الديمقراطيين الحر" الممثل بعشرين نائباً، ليتولى الزعيم الاشتراكي "بيتر ميديغييسي" رئاسة الحكومة. وبعد أربع سنوات سيقود أوروبان حزبه لانتخابات عامة أخرى، متحالفاً للمرة الثالثة مع "الحزب الشعبي الديمقراطي المسيحي"، لكن الاشتراكيين تقدموا عليه أيضاً ليبقوا في الحكم، وإن برئيس حكومة جديد هو "فيرانس غويرسيني". وهنا أصبح مستقبل أوروبان على رأس الحزب أمام سؤال كبير. إلا أن مخطط التقشف الذي تبنته الحكومة الاشتراكية إبّان الأزمة المالية العالمية، أثار امتعاض الشارع المجري، وزاد من شعبية أوروبان، ليفوز حزبه، متحالفاً مع الديمقراطيين المسيحيين، في انتخابات البرلمان الأوروبي، مطلع العام الماضي، بنسبة 56.3 في المئة من الأصوات وبـ14 مقعداً من أصل المقاعد الـ22. وكانت تلك النتيجة مؤشراً مسبقاً لنتائج "فيديز" في الانتخابات العامة المجرية، ربيع العام الماضي، والتي حقق فيها مع حلفائها نصراً كاسحاً، شبهه أوروبان بالثورة الشعبية المجرية على الحكم الشيوعي عام 1956 والتحول السلمي نحو الديمقراطية عام 1989... فقد فاز تحالفه بـ52 في المئة من الأصوات و263 مقعداً تشريعياً، لينهي ثماني سنوات من حكم الاشتراكيين ويعود مجدداً لرءاسة الحكومة مستنداً إلى غالبية كبيرة تتجاوز ثلثي مقاعد البرلمان اللازمة لتغيير قوانين اللعبة السياسية. وبالفعل فقد سارع أوروبان إلى سن سلسلة قوانين جديدة، شملت الجنسية، والملْكية، وقضايا اقتصادية واجتماعية أخرى، سعياً لتشديد قبضته على السلطة ولتعزيز أغلبيته السياسية... فقام بتعديل الدستور لإخراج القوانين المتعلقة بالميزانية من اختصاصات المحكمة الدستورية، ولتمكينه من التحكم في قرارات البنك المركزي. كما أصدر قانوناً يمنح حق نيل الجنسية لمواطني الدول المجاورة، سلوفاكيا وأوكرانيا وكرواتيا والنمسا ورومانيا، ذوي الأصول المجرية، مما ألّب عليه تلك الدول. أما القانون الأكثر إثارة للجدل فهو قانون تسيير شؤون الإعلام، والذي يفرض عقوبات ضد بث أي معلومات "منحازة"، ويلزم الصحفي بكشف مصادر معلوماته، ويفرض على وسائل الإعلام كشف ميزانياتها السنوية. وقد نظر البعض إلى هذا القانون على أنه تراجع عن مكاسب الحريات المتحققة في أوروبا منذ نهاية العصور الوسطى، لاسيما أنه صدر بالتزامن مع تولي المجر الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي حتى نهاية يونيو القادم، حيث تأمل بودابست في تعزيز مكانتها على الساحة الأوروبية، خاصة أنها مطالبة خلال هذه الفترة بالإشراف على مراجعة اتفاقية لشبونة، وتعزيز السياسة الخارجية للاتحاد. بيد أن سبباً آخر وراء الهجمة الإعلامية على "لوكاشينكو المجر" كما يصفه معارضوه و"أتاتورك المجر" كما ينعته أنصاره... ألا وهو قانون "ضريبة الأزمات" الذي أصدره مؤخراً، وأثار احتجاج 13 شركة أوروبية كبرى رأت أنه يستهدفها. ومن خلال تلك المواقف، يعزز أوروبان الذي قطع علاقة بلاده بصندوق النقد الدولي، صورته كزعيم قومي مجري؛ يرتاد الكنائس، ويهتم بتربية أطفاله الخمسة، ويشجع كرة القدم... لكن الصخب حوله لا يتوقف! محمد ولد المنى