تفجير كنيسة القديسيّنِ بالإسكندرية فجّر تظاهراتٍ قبطيةٍ غاضبةٍ مارست إلقاء الحجارة على قوات الأمن في مصر، شكاوى البطالة والفقر حرّكت الاضرابات في تونس، غلاء المعيشة هيّج مئات الجماهير للخروج للشارع ونهب بعض مؤسسات الدولة والمؤسسات الخاصة في عددٍ من المدن بالجزائر. والسؤال هنا هو لماذا نجد لدى الجماهير القدرة على الاستجابة السريعة للاضطراب؟ وعن ماذا تعبّر هذه الاستجابة؟ وكيف أصبح من السهل على الجماهير أن تنتقل من جماهير محتجةٍ وبمطالب –بعضها مستحق- إلى جماهير مخرّبةٍ ومعتديةٍ؟ ثمّ ماهي طبيعة هذه الجماهير؟ وهل هي جماهير أم رعاع؟ ربما كان شيء من الجواب يكمن في أنّ سخط الجماهير على الوضع القائم حين يضرّ بها، ولا يخدمها يدفعها لكراهية الاستقرار، ويملأ نفوسها بضرورة تحريكه وتغييره بأية طريقةٍ وأيّ سبيل، ولكن أليس من الجواب أيضاً أن مجتمعاتنا العربية تعاني من أسئلةٍ كبرى لم تستطع الإجابة عليها بعد، فسؤال الهوية لم يزل معلقاً، وسؤال الدولة لم يزل ضائعاً، والموار الثقافي الذي تعبر عنه صراعات التيارات والأحزاب والجماعات لم يزل في لجة بحرٍ متلاطم ولم يجد المرسى بعد. تعمّ الفوضى وينتشر الخراب، حين تختفي الرؤية ويلتغي المشروع وينتفي الهدف، وهذا تحديداً ما يجري في عالمنا العربي، فالرؤى -إن وجدت مختلفة- والمشاريع غير منسقةٍ وأغلبها في حكم الملغى، والأهداف العامة تسير في العماء إنْ بين متخذي القرار وصنّاعه، أو بين المعارضين والساخطين، فكلاهما في الهمّ شرق كما يقول شوقي، ولكلٍ ليلاه التي يغنّي عليها، والجماهير تدفع الثمن حيناً وتدّفّعُ القيادات الثمن حيناً. أحسب أن جزءاً من مشكلاتنا الكبرى يكمن فيما يمكن تسميته بثالوث العماء والتعامي والتعميم، ثلاثة في نسقٍ يمكن من خلالها تفسير كثيرٍ من الظواهر السياسية والثقافية والاجتماعية ونحوها، يعبر العماء عن الجهل، والتعامي عن الغفلة أوالتغافل، والتعميم عن العجز والبحث عن الأسهل. العماء والجهل لهما أسباب عدة من أهمها فشل العملية التربوية والتعليم العام، وتخلّف التعليم العالي، والعزوف عن القراءة وبوار سوق الكتاب وغيرها، كما أنّ للتعامي والغفلة أسباباً أخرى، كغياب الرؤى الكبرى واضطراب أو غياب الأهداف والغايات الحاكمة لكل الحراك المجتمعي، وفشل العملية التنموية ونحو هذا، أما التعميم في الأحكام المصدرة والمواقف المتخذة، فأسبابه ظاهرة من أهمها العجز عن بذل الجهد المطلوب لفهم الظواهر والأحداث، والتراخي عن العمل الدؤوب لدراسة أي ظاهرةٍ أو تحليل أي أزمةٍ، فضلاً عن غياب الرصد الدقيق والعلمي للمجتمعات والدول، أو للأفراد والتيارات. أمثلة هذه الثلاثة العماء والتعامي والتعميم، منتشرة ووفيرة في غالب البلدان العربية، تقل هنا وتكثر هناك، ولكنّها أشبه بالظاهرة المستقرة، التي تؤدي على الدوام لسهولة قيام الاضطرابات وتسرّع من انخراط الجماهير فيها، وكشاهدٍ آخر –غير ما سبق- أكثر دلالةٍ في هذا السياق حادثة الهياج الجماهيري في مصر والجزائر بعد مباراة كرة قدمٍ لا أقلّ ولا أكثر، مباراة لاعلاقة لها بدين ولا طائفة ولا سياسة ولا فقر ولا بطالة، ولكنّه احتقان مجتمعي شبه مزمن في كثير من البلدان العربية، يفتّش دائماً عن حدث مهيّج ليعبّر عن نفسه ويخرج قرونه من خلاله. يرافق هذا الاحتقان شعور عميق بالخيبة لدى الأفراد المنخرطين في هذه المظاهرات أو الحركات الجماهيرية، وفي هذا يقول "إيريك هوفر" في كتابه المؤمن الصادق: "من أهمّ ما يجذب الناس إلى الحركة الجماهيرية أنّها تقدّم بديلاً للأمل الفردي الخائب"، وهو يرى أيضاً أن أتباع الحركات الجماهيرية ليسوا هم الفقراء المدقعون، ولا الغاضبون بل الملولون والطامحون والحالمون، وهو تحليل له وجاهته. من المعروف أنّ الجماهير والحركات الجماهيرية تعادي الفردية وتخاصمها، كتب في هذا "غوستاف لوبون" في كتابه سيكولوجية الجماهير قائلاً: "مجموع الخصائص الأساسية للفرد المنخرط في الجمهور: تلاشي الشخصية الواعية، هيمنة الشخصية اللاواعية. هذا يعني أنّه بمجرّد أن ينضوي الفرد داخل صفوف الجمهور، فإنه ينزل درجاتٍ عديدةٍ في سلّم الحضارة"، وهو ما يؤكده "هوفر" بقوله"يجب أن يكفّ الفرد عن الشعور أنّه خلية بشرية مستقلة لها وجود يحدّه المولد والوفاة، وأكثر الطرق فاعلية في الوصول إلى هذا الهدف هو صهر الفرد كليةً في الجسم الجماعي". ويضيف بأن من طبائع الحركات الجماهيرية أن "طمس الاستقلال الفردي يجب أن يكون كاملاً". يعرّف "لوبون" الجماهير أو الجمهور بقوله: "إن كلمة جمهور تعني في معناها العادي تجمعاً لمجموعة لا على التعيين من الأفراد، أياً تكن هويّتهم القوميّة أو مهنتهم أو جنسهم، وأياً تكن المصادفة التي جمعتهم". لقد تنوّعت المواقف من الجماهير أو "العامّة" أو نحوها من التسميات، بين مدحٍ وذمٍ، وتعددت الدراسات التي تتناول الجماهير من حيث هدف هذه الدراسات، فهناك من درس الجماهير ليتحكّم فيها ويرسم طرق إخضاعها للسيطرة كما فعل ميكافيللي في كتابه "الأمير"، وهناك من درس الجماهير ليفهمها ويحاول تلمّس وقراءة تأثيرها على الأحداث كما فعل "غوستاف لوبون"، في أكثر من كتاب، ومثله "إيريك هوفر" في كتابه "المؤمن الصادق"، وهناك من درسها ليوجّهها للثّورة وغير ذلك. لقد تعددت الأهداف وبقيت الجماهير مغناطيساً يجلب الدارسين ويثير الباحثين ويشغل القادة. الجماهير في التراث العربي يعبّر عنها بتعابير متعددة، منها "الغوغاء" و"العامّة" و"السوقة" و"الرعاع" وغيرها من التعابير، والتراث العربي في أغلبه يذم الجماهير ولا يمدحها. جاء في شرح "نهج البلاغة" عن علي بن أبي طالب أنه قال في صفة الغوغاء: "هم الذين إذا اجتمعوا ضرّوا وإذا تفرّقوا نفعوا، فقيل قد علمنا مضرّة اجتماعهم فما منفعة افتراقهم؟ فقال: يرجع أهل المهن إلى مهنهم فينتفع الناس بهم، كرجوع البنّاء إلى بنائه والنسّاج إلى منسجه والخبّاز إلى مخبزه". وقد وجدتُ هذا الكلام منسوباً إلى واصل بن عطاء في رسائل الجاحظ ج1 ص238، ووجدت فيه نقلاً عن عمر بن عبدالعزيز أنه إذا نظر إلى الطّغام والحشو -وهي من التسميات التراثية للجماهير- قال: "قبّح الله هذه الوجوه لا تعرف إلا عند الشرّ". وبالمقابل نجد نقلاً عن الأحنف يقول فيه: "أكرِموا سفهاءكم فإنهم يكفونكم النار والعار"، ونجد نقلاً عن بعض السلف نقله ابن القيّم وغيره يقول: "لا تسبّوا الغوغاء فإنهم يطفئون الحريق وينقذون الغريق". والنقلان الأخيران فيهما ذمٌّ بما يشبه المدح، وهما يؤكدان الذم السابق، إلا أننا نجد عند "غوستاف لوبون" تفريقاً بين أنواع الجماهير فهو يقول: "هناك جماهير مُجرمة من دون شك، ولكن هناك أيضاً جماهير فاضلة، وجماهير بطلة، وجماهير أخرى عديدة"، ولكنه يوافق على جزء من الفكرة السابقة بتأكيده أن "الجمهور هو دائماً أدنى مرتبة من الإنسان المفرد فيما يخص الناحية العقلية والفكرية" ص61، وحديث غوستاف لوبون أكثر عدلاً وإنصافاً وعلميّة. يصف الجاحظ الجماهير أو العامّة -كما في كتابه "الحيوان"- بقوله: "وهم أقلّ شكّاً وأكثر تسرُّعاً"، وهو ما يؤكده "لوبون" في حديثه عن "سرعة انفعال الجماهير وخفَّتها ونزقها". هذا فيما يتعلّق بتسرُّعها، أما قلّة شكّها ويقينيتها الجارفة، فيقول عنها لوبون: "إن بساطة عواطف الجماهير وتضخيمها يحميها من عذاب الشكوك وعدم اليقين" ص74. إضافة لما سبق، فإن بعض الأنثروبولوجيين يرون أن حياة البشر تمرّ بدوراتٍ على المديين القصير والطويل، ويرى بعض الاقتصاديين أن الاقتصاد يمرّ بدوراتٍ كذلك، ويرى "هيجل" أن التاريخ يمرّ بدوراتٍ، وربما أنّنا في العالم العربي نمرّ بمخاض عسير للانتقال من دورة تاريخية قديمةٍ إلى دورة تاريخية جديدة، وأنّ هذه الاضطرابات جميعاً تشكّل جزءاً من تفاصيل هذا الانتقال. عبدالله بن بجاد العتيبي Bjad33@gmail.com