علق الرئيس الفرنسي على مذبحة الإسكندرية الأخيرة بالقول إن المشرق العربي يشهد حالياً "حرب تطهير ديني ضد المسيحيين". واستخدم الرئيس اللبناني الأسبق "أمين الجميل" عبارة "الإبادة الجماعية"، وطالبت وزارة الخارجية الأميركية بحماية دولية للمسيحيين العرب. هل وصلت الأمور فعلاً في منطقتنا إلى حد التصفية والإبادة "والتطهير"؟ والحال أن هذه العبارات استخدمت في السابق لوصف أحداث تاريخية فظيعة محددة كالإبادة اليهودية في العهد النازي، وتصفية مسلمي البوسنة، وجرائم التصفية العرقية في رواندا (مع العلم أن أفظع مشاهد الإبادة الجماعية، هي التي حدثت لمسلمي الأندلس ولسكان أميركا الأصليين من الهنود الحمر). ما حدث في الإسكندرية وفي العراق من قبل، لا يمكن التقليل من فظاعته وحدته. ولا أحسب أن أحداً في عالمنا العربي باستثناء قلة من المتطرفين المعزولين – لم يتعاطف مع محنة إخواننا من النصارى، الذين تعرضوا لإحدى العمليات الإرهابية التي أصبحت للأسف مألوفة في منطقتنا، إلا أن استخدام عبارات مثل الإبادة والتصفية قد يجر الخلط غير المبرر بين جرائم المجموعات الإرهابية، وما يقدم في الإعلام الغربي بأنه حرب دينية تستهدف مسيحيي البلاد العربية. فمن البديهي أن"استراتيجية" هذه المجموعات تتمحور حول أهداف ثلاثة هي: إشعال الفتنة الطائفية حيث يكون التنوع المذهبي، وتفجير الصراع الديني حيث تكون التعددية الدينية، واستهداف السياح والمقيمين من البلدان الغربية من منظور وهْم "الحرب الصليبية المحتدمة بين المسلمين وأعدائهم". وهكذا ندرك كيف أن استهداف النصارى العرب لا يختلف في المنطق العميق عن العمليات الإرهابية التي استهدفت المسلمين أنفسهم مثل شيعة العراق وباكستان (مع العلم أن المجموعات الشيعية المتطرفة قامت بالجرائم ذاتها)، فبالنسبة للفكر التكفيري يتسع مفهوم الكفر ليشمل أغلب مكونات الأمة الإسلامية نفسها من شيعة(رافضة) ومتصوفة (مشركين) وطيف سياسي (علمانيين) وحكام. ولذا من غير الدقيق، بل من غير المسؤول النظر الى أحداث بغداد والإسكندرية خارج هذا السياق بما يعني في نهاية المطاف الانسياق في دعاية المجموعات المتطرفة (الحرب الدينية). وما يحز في القلب هو تنامي تيار متأثر بهذه الأجواء غير الصحية داخل النخب المسيحية العربية باحتضان جلي من أوساط لاهوتية وكنسية غربية ترفع شعار "تحرير مسيحيي الشرق". يتمحور خطاب هذا التيار – الذي لا يتسع المقام لذكر أسماء رموزه وكتاباته المنشورة – حول ثلاث مقولات: الوحدة اللاهوتية والعقدية بين الطوائف المسيحية شرقاً وغرباً في مقابل "غرابة" الإسلام ومغايرته المطلقة. وإعادة قراءة تاريخ التاريخ العربي الوسيط من منظور كونه تاريخ "إبادة" بطيئة ومقننة للمسيحيين "المحرومين من حق المواطنة". والشكوى من "تهميش" و"إقصاء" المكونات المسيحية في البلدان العربية، وعزو تلك الحالة المزعومة إلى الطابع الإسلامي المعلن للدولة العربية. وليس من همنا الرد بالتفصيل على هذه المصادرات الزائفة، وحسبنا الإشارة إلى بعض المعطيات الأولية الأساسية، التي تستحق مزيداً من البحث والاستقصاء من لدن المختصين . ولنبدأ بالقول أن تثبيت أسطورة "التقليد اليهودي– المسيحي المشترك" التي أريد منها إقصاء الإسلام من التيار التوحيدي الجامع (كما يرى محمد أركون)، تلتها محاولات احتواء الطوائف المسيحية الشرقية ضمن المنظور اللاهوتي والمؤسسي للكنيسة الكاثوليكية الغربية. وليس من همنا الرجوع الى الخلفيات التاريخية البعيدة لانقسام الطوائف المسيحية وطبيعة وخصوصيات المسيحية العربية في ذلك السياق، (يراجع في الأمر كتاب الأمير الحسن بن طلال: المسيحية في العالم العربي). وإنما نكتفي بالإشارة إلى أن أحدث الدراسات الأركيولوجية والتاريخية في المسألة ألقت أضواء كاشفة على مسار التمايز بين المسيحية الشرقية الأصلية القريبة من الإسلام والمسيحية الغربية التي تأثرت منذ نشأتها بالثقافة اليونانية والتقاليد الرومانية. نشير هنا إلى كتاب عالم الاجتماع الديني الفرنسي "فردريك لنوار" الذي أصدر السنة الماضية كتاباً مثيراً بعنوان "كيف أصبح يسوع ربا؟". يبين لنوار (وهو مسيحي مؤمن) أن الأناجيل الأولى لم تكن تتحدث عن الطبيعة الإلهية للمسيح، وإنما تكتفي بالقول إنه رسول مبعوث من الله وله "علاقة خاصة به"، كما كانت تتحدث عن عودته بعد موته. ولم تظهر عقيدة التجسد – حسب لنوار – إلا في نهاية القرن الأول الميلادي ، في حين تحولت إلى القول بإلهية المسيح في القرن الثاني. ولم يصبح هذا القول مذهباً رسمياً ينعقد عليه الإجماع إلا في القرن الرابع عشر. بل إن القديس "توماس الاكويني" راجع في آخر حياته عقيدة التثليث، وأصبح يقول باللاهوت السلبي (أي استحالة وصف الله بالنظر لكماله المطلق ومخالفته الكلية للخلق). كما أن المؤرخ التونسي "محمد الطالبي" خلص من قراءاته المستفيضة للتراث المسيحي والدراسات الحفرية والتاريخية إلى أن العقيدة المسيحية، نشأت في ملتقى رافدين فكريين متمايزين هما:التقليد اليهودي التوحيدي والفكر اليوناني الفلسفي والوثني. ويرى "الطالبي" أن مسار التحول ارتبط بـ"بولس الرسول" الذي هو "رسول الأمم غير اليهودية...والمؤسس الحقيقي والفعلي للمسيحية في بيئة غير يهودية وثنية يونانية".كان بولس يهودياً رومانياً معاصراً لفيلون الاسكندري، الذي هو الفيلسوف الذي أضفى صبغة هيلينية على اليهودية. فهو الذي خلع الربوبية على يسوع وأعلن عقيدة التثليث ذات الجذور الوثنية اليونانية. ولم تكن هذه العقيدة هي المنتشرة لدى نصارى العرب من أتباع مذهب "الطبيعة الواحدة". وقد تزامن إفلاس مدرسة الحفريات التوراتية (الذي عبر عنه أجلى تعبير كتاب عالم الأركيولوجيا الإسرائيلي إسرائيل فينكلشتاين: كشف النقاب عن التوراة)، مع بروز مدرسة الحفريات العربية التي ارتبطت بوجوه علمية بارزة مثل "كمال الصليبي"، و"زياد منى" . وما بينته هذه المدرسة هو تجذر المسيحية في نشأتها الأصلية ضمن التراث الثقافي العربي، الذي نزلت فيه وتفاعلت معه، قبل التأثيرات الغربية. وتلتقي مدرسة الحفريات الشرقية مع خطاب سراة النهضة العربية من نصارى الشام ومصر، الذين نبهوا إلى الوحدة التاريخية والعقيدة العميقة بين الإسلام والمسيحية.