جاك شاهين الخبير الأميركي في صورة العربي المشوهة في السينما الهوليوودية حلل أكثر من ألف فيلم سينمائي تتضمن صوراً سلبية عن العربي (المتوحش، الهمجي، غير المتحضر، الإرهابي، خاطف الأطفال والنساء... الخ). ويصل في أبحاثه وكتبه المهمة إلى نتيجة بالغة الخطورة هي التالية: يعمل الإعلام غير المسؤول، الترفيهي في حالة هوليوود، على نشر وتجذير ثقافة شعبية عامة تجاه جماعات أو أفراد أو أديان أو طوائف قد تتصف بسلبية بالغة وازدرائية تحط من شأنهم الإنساني. وعلى مدار فترات زمنية طويلة تترسخ صور عن "هؤلاء" تجعلهم منبوذين في المخيلة الشعبية العامة، وهي صور تمهد الطريق لأية جرائم ضدهم من قبل "المتطرفين" الذين تفرزهم تلك الثقافة الشعبية. وحال قيام تلك الجرائم فإن الثقافة المعنية الحاضنة لها لا تنتفض ضدها بالقوة المطلوبة لأن كراهية "الآخر" تكون قد ترسخت وقضت على الحساسية الإنسانية الفطرية في رفض إبادة الأبرياء. وهناك أمثلة لا تحصى يمكن إيرادها تدعم نظرية جاك شاهين، ويكفي هنا الإشارة إلى مثالين صارخين على تواطؤ الثقافة الشعبية مع الجرائم الكبرى ضد "الآخر" الذي تمت شيطنته وإزالة الصفة الإنسانية عنه، واحد معاصر والثاني من تاريخ القرن العشرين. المثال المعاصر والطازج هو غزو بوش الابن للعراق على خلفية الصورة الاحتقارية للعربي التي كانت وما تزال بالغة التجذر في المخيلة الأميركية الشعبية. فالغزو الذي تم على رغم إرادة الأمم المتحدة وضد القانون الدولي ما كان ليتم لو لم تكن البيئة الشعبوية الأميركية متقبلة للهجوم على أرض أولئك "المتوحشين والهمج والإرهابيين" الذين يراهم الأميركي على شاشة السينما باستمرار. وذلك الاستسهال في المضي بقرار الحرب والغزو ما كان ليحدث ضد أي بلد أو مجموعة عرقية أخرى لا ينظر إليها الأميركيون بالمجمل نظرة دونية. المثال الآخر، من التاريخ القريب، هو الإبادة اليهودية على يد هتلر في ألمانيا النازية خلال الحرب العالمية الثانية. فقد سبقت تلك الإبادة سنوات طويلة عمل خلالها الحزب النازي على نشر وتجذير ثقافة شعبوية تنظر لليهود على أنهم ليسوا بشراً ولا يستحقون الحياة. وكانت مصادر تلك الثقافة الإعلام والسينما والمسرح. وهكذا وعندما شرع هتلر في برنامج الإبادة المخيف كان المناخ الألماني الشعبوي قد تهيأ للجريمة بقدر كبير من الاستسهال واللامبالاة. وتفيدنا هذه الفكرة المفتاحية في فهم كثير مما يحدث من مجازر وقتل في العالم وتفسر التواطؤ الشعبي الذي لا يرى في الجريمة بحق "الآخر" جريمة كاملة تستحق الانتفاض ضدها بكل عنف وإنسانية، فمن حروب أفريقيا الأهلية إلى حروب البلقان إلى مجازر إسرائيل ضد الفلسطينيين كانت الجماعات الأهلية ترتد إلى أبغض درجات التوحش في تقبلها لما يتم اقترافه بحق "الآخر. وفي كثير من البلدان العربية في الوقت الراهن هناك حقن وشحن طائفي وإثني بالغ الخطورة. صحيح أن الأمور لم تصل بالثقافات الشعبوية لتقبل جرائم إبادة واسعة النطاق، ولكن المنحنى الذي تسير عليه تلك الثقافات يشير إلى اتجاه مأساوي وحثيث يدلل على تفاقم كراهية "الآخر". و"الآخر" في بلداننا قد يكون مختلفاً إثنيّاً وعرقيّاً وقبليّاً (أفريقي، كردي، أمازيغي...)، أو مختلفاً دينيّاً (مسيحي، يهودي، صابئي، لا ديني...)، أو مختلفاً طائفيّاً (سني، شيعي، زيدي...)، أو حتى مختلفاً فكريّاً (علماني، غير متدين، ملحد...). وفي العقود الثلاثة الأخيرة، على أقل تقدير، تفاقمت النظرة الازدرائية للآخر، على تنويعاته، وتسابق الشحن الطائفي والديني مع الشحن القومي والإثني، وإن ظل قصب السبق يعود دوماً للأول متوازيّاً مع المد الديني الأصولي الذي ابتلع الفضاء العربي بمجمله. وقد حدث ذلك ولا زال يحدث في ظل غياب اجتماع سياسي يقوم على قاعدة المساواة الدستورية التي تخفض من الولاءات والهويات الدينية والإثنية والقبلية لصالح هوية المواطنة العلمانية، وهي الهوية التي تنظر للأفراد بكونهم مواطنين متساوين أمام الدستور تنظم علاقاتهم ببعضهم بعضاً أساسيات الحقوق والواجبات لا ولاءات الدم أو الأيديولوجيا أو المُعتقد. والدولة العربية الحديثة التي لم تكن لها علاقة بالحداثة سوى اسمها وأجهزة البطش التي تحمي سلطاتها كانت في جوهرها التجسيد الأفضل للحكم الطائفي القائم إما على العشيرة والعائلة، أو الإثنية، أو الدين، أو الطائفة، أو الحزب المغلق على فئة محدودة تربطها المصالح والنهب والفساد، أو خليط من بعض ذلك أو كله. وجماع ذلك كله أننا صرنا نعيش في مناخات متطرفة تزايد على بعضها بعضاً في التطرف. والتعبير الأبلغ سوءاً عن مديات التطرف والإقصاء واستبعاد الآخر والتمهيد لتصفيته حتى جسديّاً إن أتيحت الفرصة يتمثل في سياسات الحكومات الاستبدادية وبطشها، وفي الخطابات الدينية وتحديداً تعبيراتها الإعلامية وطوفان فتاواها. وقبل فترة وجيزة من مجزرة كنيسة الإسكندرية في مُفتتح هذا العام كانت فتوى صادرة عن شيخ سلفي في مصر تهدر دم الدكتور محمد البرادعي لأنه "خارج عن طاعة ولي الأمر". وفتاوى "إهدار الدم" شهدت ازدهاراً دمويّاً في السنوات الأخيرة ليس فقط على ألسنة شيوخ الإجرام "القاعدي" وحسب، بل وعلى ألسنة شيوخ بعض مخالفيهم. وليس لنا هنا إلا أن نتذكر فتوى إهدار دم مُلاك الفضائيات الترفيهية، والفتاوى المتلاحقة ضد الكُتاب والصحفيين العلمانيين والليبراليين. وهذا كله يصدر بحق "الآخر المسلم" فما بالك بالآخر غير المسلم أصلًا؟ على ذلك يتضاءل عمليّاً الفرق بين من يحلل دم مسيحيي العراق ثم يشرع في التنفيذ بتدمير الكنائس على رؤوس المصلين فيها، ومن يحلل دم المخالفين فكريّاً وسياسيّاً لكنه يترك التنفيذ للآخرين. والمناخ التطرفي العام يخلق الظروف ويهيئ مسرح الجريمة حتى لو ادعى المدعون الكثر أنهم لا يبيحون القتل، إذ يكفي أنهم يقطعون بالقاتل تسعة أعشار المسافة، ثم يتركون ما تبقى منها له! ولذلك فإن الخطير والكارثي هنا يكمن في أمرين: الأول هو أن "التطرف" الذي تُعلق عليه مسؤولية الجرائم التي نشهدها اليوم ليس سوى خلاصة مناخ شعبوي عام متطرف ساهم في تسييده الاستبداد السلطوي، والتدخلات الخارجية، والمد الديني بأنواعه. والأمر الثاني هو تواطؤ كل الفاعلين الأساسيين الذين اشتغلوا على مدار عقود طويلة على تأسيس هذا المناخ الشعبوي المتطرف واتفاقهم على إحالة الجرائم المتزايدة على شماعة "المجموعات المتطرفة الإرهابية والهامشية". عمليّاً، وكل أولئك الفاعلين الأساسيين متهمون رئيسيون (السلطات الديكتاتورية، والإعلام الشعبوي والديني تحديداً، ومناهج التعليم المغلقة، والحركات الإسلامية، والسياسات الاقتصادية الإفقارية، والسياسات الغربية التوحشية... الخ). وهم كذلك لأن كلًا منهم عمل ويعمل بطريقته الخاصة على تزويد "المجموعات الإرهابية والهامشية" بالمدد والعناصر الغاضبة كي تواصل جرائمها. والخراب طويل الأمد الذي أنتج عفونة التطرف والأصولية في مجتمعاتنا يحتاج إلى حلول طويلة الأمد أيضاً، جوهرها بناء اجتماع سياسي قائم على مبدأ المواطنة والحرية والمشاركة السياسية والدستور العلماني الذي يفصل بين الدين والسياسة بشكل لا غموض فيه.