تعارف الاقتصاديون على إطلاق تسمية "خطة بونزي" على كل احتيال استثماري من نوع ما قام به مكتشفه المدعو "تشارلز بونزي"، وتتلخص العملية الاحتيالية في خداع مستثمرين أوائل عبر ادعاءات كاذبة تقول إن نقودهم يمكن وعبر "عبقرية" استثمارية أن تتعاظم إلى حد الحصول على فوائد فوق مستوى 50 في المئة من رأس المال سنويّاً. طبعاً هذا الخداع يوجه للأوائل من المستثمرين الطامعين الذين سيروجون هذه النوعية من الاستثمار الخارق للعادة لأصدقائهم، وهؤلاء بدورهم سيسيل لعابهم للفوائد التي يندر أن تعطيها أسواق المال أو العقار أو أية مصادر استثمارية أخرى؛ ثم يبدؤون في جلب أموالهم للمستثمر العبقري المخادع عبر نقودهم الجديدة الحارة، على أمل أن تتوالد الفوائد الموعودة مثلهم مثل من سبقهم أصحاب حلم الثراء السريع، وبعد هؤلاء سيأتي فوج ثالث تؤخذ منه فوائد الفوج الثاني.. وهكذا. وبعد وقت قد يطول أو يقصر تحل الكارثة على الجميع، ويختفي العبقري المخادع بأموال الناس الباقية، وإن تعاون الحظ مع المفلسين فإن السلطات في هذا البلد أو ذاك ستلقي القبض على المحتال، لكن في كثير من الحالات لا تجد السلطات المعنية أموالاً كافية تُرد حتى للفوج الأول، فكيف بالأفواج الكثيرة من المخدوعين التي أتت بعد ذلك؟ آخر هؤلاء العباقرة المُخادعين هو البليونير الأميركي السابق "مادوف" الذي استثمر -عبر طريقة بونزي- أموال الأفراد والمؤسسات والهيئات الخيرية وصناديق كثيرة في الولايات المتحدة، وبمبالغ تتراوح بـ60 بليون دولار و100 بليون (بليون وليس مليوناً)!! وبعد جهد جهيد قبضت عليه السلطات الأميركية لتجد عنده أربعة خواتم ألماس وساعتين مذهبتين ومكتباً مزخرفاً بالأبنوس وعدة أطقم من أزرار القمصان الفضية وأحذية جلدية مصنوعة من جلد الثعبان والتمساح.. فقط! وهذه الضربة العبقرية المخادعة "بونزي" لا تُطبق فقط على حقلي المال والاقتصاد، بل يتعدى الأمر -وإن بمسميات أخرى- لتصل بتبعاتها إلى النشاط السياسي. كيف؟! اقتصاديّاً: الطريقة التي لخصنا قبل قليل عملها تعتمد على الوقت وعدم قول الحقيقة والحالة النفسية للمستثمرين، وبمثل هذه الطرق يمكن أن تقال الأحلام والخدع السياسية للناس، مرفودة بعامل الوقت وإخفاء الحقائق وانبهار الشارع بكاريزما القيادة.. إلى أن تحين ساعة الصفر، ليجد الجميع البلاد وقد احتُلت أو انفصلت أو أفلست أو نشبت في داخلها حروب أهلية تأكل الأخضر واليابس. كانت الناس في مصر مثلاً، في النصف الأول من سنة 1952، في حاجة إلى التغيير، وكان الفساد متجذراً وخلافات الأحزاب على أشدها، ونتائج حرب عام 1948 تتوالى، والحكم هناك يتلهَّى بسواقط الأمور، والبلد تشتعل فيها الحرائق الفعلية ملتهمة الشواهد الحضارية كل يوم. وأري من القراء أن يبحثوا عن البيان الأول لقيادة مجلس الثورة في 23 يوليو عام 1952، استمعوا أو اقرؤوا النصف الأول من البيان الذي يفسر لماذا قامت (حركة) 1952، وقارنوا ذلك بالنصف الثاني من البيان، وحقيقة ما تم إلى أن أصبح الناس ذات يومٍ صيفي على ما يجري على الأرض بالذات عندما غرُبت شمس 6 يونيو (حزيران) عام 1967. ما جرى منذ إعلان الثورة وحتى التنحي للقيادة بعد الهزيمة بأيام عام 1967، كان مجرد شراء وقت وسرد لمنجزات لم تحدث وإخفاء نتائج حروب عبثية في اليمن وإفريقيا، تضاف إلى ذلك حملة دعائية مدعومة بخصائص شخصية القائد الكاريزمية، الذي كان الناس يحبونه بوَلَهٍ وعشق لا مثيل لهما.. وأنا منهم، وعليكم بعد ذلك أن تتذكروا كيف كانت أوضاع يومي 9 و10 يونيو (حزيران) 1967: ثلث مصر احتُل، والبنية التحتية مدمرة تقريباً، والخزائن فارغة، ونقص عظيم في المخزون الغذائي الاستراتيجي. ولنطوِ الزمن بعد ذلك لنصل إلى الثلث الأخير من عقد ثمانينيات القرن الميلادي الماضي؛ عندما أتت حكومة في السودان اسمها "ثورة الإنقاذ" لتنقذ السودان من تردي الأوضاع وشبح انفصال الجنوب والسقوط المعيشي، طبقوا بعد ذلك دعائم خطة "بونزي" على وضع السودان منذ ذلك الحين إلى أن وصلنا إلى يوم 9 يناير عام 2011: قبل يوم واحد من نشر هذا المقال سينفصل ثلث مساحة السودان وسيدخل الشمال في حرب سياسية ضروس داخلية، وليس بعيداً أن يطالب أهل الغرب في (دار فور) بالانفصال أيضاً، وحكومة الإنقاذ ستحتاج إلى إنقاذٍ من نوع آخر كما يبدو في غضون أشهر قليلة. وفي العراق بلد الأنهار وغابات النخيل والنفط والمخزون البشري الحضاري والجيش الذي كان مفخرة للأمة العربية، طبقت قيادته خطة "بونزي" سياسية منذ السبعينيات إلى أن وصلنا إلى هذه الأيام، حيث جفت الأنهار والمستنقعات واصفرّ سواد النخيل وقُتل وهرب مخزون العراق البشري التنويري، وأصبحت الأراضي العراقية مباحة لجيوش البلاد "الشقيقة" وجيوش "القاعدة" والكثير الكثير من عملاء المخابرات العالمية، وأصبحت محافظات الجنوب الشيعية تطالب بتقرير المصير مثلها مثل أقاليم الشمال الكردي، وبقي الوسط السُّني يتعارك على بقية آبار نفط وكراسٍ وزارية غير سيادية. وفي الشمال الأفريقي العربي قامت أبنية سياحية على الشواطئ وازدهرت تجارة طفيلية لا نعرف اقتصاديّاً كيف نصِفُها، وعندما حلت ساعة حقائق خطة "بونزي" رأينا هذه الاحتجاجات المدمرة في بعض بلدان الشمال الأفريقي التي بدأت من تونس وتمر الآن على الجزائر وهي في طريقها شرقاً وغرباً إلى حيث تتقاطع في النتائج مع خطة "بونزي" الاقتصادية، إذن الحقائق هي هي: أكان الأمر متعلقاً بالسياسة أو بنقود المحافظ والجيوب. ستأتي أجيال قادمة لتسأل عن أسباب ذهابنا طامعين إلى حيث نداءات "بونزي" الاقتصادية والديمغرافية والسياسية، وستتوقف الكلمات عند المعتذرين كما توقفت الكلمات في حنجرة "مادوف" عندما سُئل عن أموال المستثمرين وكيف جرت رياح خطة "بونزي"؟! لكن بين بدايات عمل آليات خطة "بونزي" ونهاياتها المأساوية هناك أحلام كثيرة وآمال عريضة وحقائق مغيبة، وهذا البرزخ الاقتصادي من الوهم يعرفه "تشارلز بونزي" وتلاميذه، كما يعرفه تلاميذه في حقول أخرى، وما يفرق بين هذا وذاك هو الزمن طوله وقصره، أما النتائج فمعروفة مسبقاً ولا تحتاج إلى خبير ولا إلى قارئة فنجان.