لا يحظى كل جيل من الأجيال بفرصة طي صفحة الماضي وكتابة فصل جديد في سجل تاريخ شعبه. ومع ذلك فالآن– وبعد حرب أهلية وحشية امتدت 50 عاما وأزهقت أرواح مليوني نسمة وحوّلت ملايين أخرى إلى لاجئين – فإن هذه هي الفرصة التي أصبحت متاحة أمام شعب جنوب السودان. فعلى مدى الأيام السبعة القادمة سيدلي ملايين السودانيين الجنوبيين بأصواتهم ويقررون ما إذا كانوا يريدون البقاء جزءا من السودان أو يشكلون دولتهم المستقلة. وستساعد هذه العملية – مع تصرفات القادة السودانيين – في تحديد ما إذا كان الشعب الذي تكبد الكثير من المعاناة سيمضي قدماً نحو السلام والرخاء، أو ينزلق متراجعاً إلى الوراء في دوامة سفك الدماء. وذلك لن تقتصر عواقبه على السودان وحسب، ولكنها ستطال أفريقياً جنوب الصحراء والعالم. الاقتراع التاريخي الذي بدأ أمس هو في حد ذاته ممارسة لحق تقرير المصير الذي ظل يعتمل منذ وقت طويل، وهو جزء رئيسي من اتفاق السلام الذي أبرم عام 2005 الذي أنهى الحرب الأهلية في السودان. إلا أنه قبل شهور قليلة ماضية، مع تأخر التحضيرات عن جدول مواعيدها، لم يكن مؤكداً أن الاستفتاء سيُجرى بالمرة. ولذا فإنني اجتمعتُ بقادة من السودان والعالم في سبتمبر للتدليل بوضوح على أن المجتمع الدولي متحد على أن هذا الاستفتاء يجب أن يتم، وأن إرادة شعب جنوب السودان يجب أن تُحترم، بغض النظر عن النتيجة. وفي خطوة مهمة إلى الأمام، وافق قادة شمال السودان وجنوبه على العمل معاً بتأييد من أكثر من 40 دولة – لضمان أن يتم الاستفتاء في موعده وفي سلام وحرية ومصداقية ويكون انعكاساً لإرادة الشعب السوداني. ويعود الفضل في حقيقة أن الاستفتاء بدأ في موعده إلى أولئك الذين تمسكوا وأوفوا بالتزاماتهم في السودان. فقد أعلنت حكومة السودان مؤخراً أنها ستكون أول من يعترف بالجنوب إذا صوت للاستقلال. والآن ها هو العالم يراقب، ونحن متحدون في تصميمنا على أن تفي كل الأطراف في السودان بالتزاماتها. إذ يجب في الوقت الذي تستمر فيه عملية الاستفتاء تمكين الناخبين من الوصول إلى مراكز الاقتراع والإدلاء بأصواتهم بحرية دون ترهيب أو إكراه. وعلى الأطراف كلها أن تتجنب العبارات الخطابية الملهبة للمشاعر والأعمال الاستفزازية التي قد تثير التوترات، أو تحول دون تعبير الناخبين عن إرادتهم. وعندما يجري فرز الأصوات وإحصاؤها، ينبغي على كل الأطراف أن تمتنع عن الحكم سلفاً على النتيجة. فلكي تكون النتائج ذات مصداقية وموثوق منها يجب أن تكون اللجنة المشرفة على الاستفتاء حرة من الضغوط والتدخلات. وقادة الشمال والجنوب بحاجة إلى العمل معاً خلال الأيام القليلة المقبلة المثيرة للقلق للحيلولة دون نشوب العنف وضمان أن لا تتصاعد الحوادث المنعزلة وتتفاقم إلى وضع أوسع من عدم الاستقرار. ولا ينبغي لأي جانب في أي حال من الأحوال أن يلجأ إلى استخدام قوى بالوكالة عنه في محاولة لكسب امتياز على الآخر ونحن في انتظار النتائج النهائية. فالتصويت الناجح سيكون مدعاة للاحتفال وخطوة ملهِمة في مسيرة أفريقيا الطويلة إلى الأمام على درب الديمقراطية والعدالة. ومع ذلك فإن السلام الدائم في السودان يتطلب ما هو أكثر بكثير من مجرد إجراء استفتاء موثوق به. واتفاقية السلام الشامل المبرمة عام 2005، يجب أن تطبق بالكامل، وهي اتفاقية تتطلب تنازلات من جميع الأطراف. والنزاع الحدودي ووضع إقليم أبيي الذي يمتد في شمال السودان وجنوبه يجب أن يسوّى سلميا. كما أن سلامة ومواطنة كافة السودانيين، لا سيما أفراد الأقليات منهم -الجنوبيون في الشمال والشماليون في الجنوب - يجب أن تكون محمية. وسيتعين وضع ترتيبات للتوزيع الشفاف لعائدات النفط التي يمكن أن تسهم في التنمية. وإن عودة اللاجئين يجب أن تنفذ بعناية فائقة منعاً لكارثة إنسانية ثانية. وإذا اختار "الجنوب" الاستقلال، فإن الأسرة الدولية، بما فيها الولايات المتحدة، سيكون لها مصلحة في ضمان أن الأمتين اللتين ستنبثقان، أي الشمال والجنوب، ستنجحان كجارتين مستقرتين وقابلتين للحياة اقتصاديا، لأن مصيريهما مترابطان. وجنوب السودان، بوجه خاص، سيحتاج لشركاء في المهمة الطويلة الأجل لتحقيق طموحات شعبه السياسية والاقتصادية. أخيراً، لا يمكن أن يكون هناك سلام دائم في السودان بمعزل عن سلام دائم في دارفور. فهلاك مئات الآلاف من أهالي دارفور الأبرياء - ومحنة اللاجئين من أمثال أولئك الذين التقيتهم في مخيم في تشاد المجاورة قبل 5 سنوات - يجب ألا يغيبا عن ذاكرتنا. وهنا أيضا فإن العالم يرصد الأحداث. وحكومة السودان يجب أن تفي بالتزاماتها الدولية. فالاعتداءات على المدنيين يجب أن تتوقف، كما ينبغي أن تتاح لقوات حفظ السلام الدولية والعاملين في مجال المساعدات حرية الوصول إلى المحتاجين. وكما أبلغت القادة السودانيين في سبتمبر الماضي، فإن الولايات المتحدة لن تتخلى عن أهالي دارفور، وسنواصل مساعينا الدبلوماسية لإنهاء الأزمة هناك، إلى الأبد. ويجب على الأمم الأخرى أن تستخدم نفوذها لجمع جميع الأطراف حول المائدة وضمان أنها ستتفاوض بنية حسنة. ومن جانبنا سنواصل الإصرار على أن يشمل السلام الدائم في دارفور المحاسبة على الجرائم التي اقتُرفت هناك التي لا مكان لها في عالمنا. وإلى جانب شركائنا الدوليين ستواصل الولايات المتحدة لعب دور قيادي في مساعدة جميع أفراد الشعب السوداني على تحقيق السلام والتقدم اللذين يستحقونهما. واليوم إنني أكرّر عرضي الذي طرحته على زعماء السودان، وهو أنكم إذا أوفيتم بالتزاماتكم واخترتم السلام، فهناك مسار يقود إلى علاقات طبيعية مع الولايات المتحدة بما في ذلك رفع العقوبات الاقتصادية وإطلاق عملية تتفق مع القانون الأميركي لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب. وفي المقابل، فإن أولئك الذين يضربون بالتزاماتهم الدولية عرض الحائط إنما سيواجهون مزيداً من الضغوط والعزلة. إن ملايين السودانيين يتوافدون على مراكز الاقتراع لتقرير مصيرهم. وهي اللحظة التي يمكن للقادة الشجعان وذوي الرؤى أن يقودوا شعوبهم إلى غد أفضل. وسيتذكر التاريخ أولئك القادة الذين يتخذون الخيار الصائب وسيكون لديهم شريك راسخ في الولايات المتحدة الأميركية. باراك أوباما رئيس الولايات المتحدة الأميركية