في أحد تجليات النفاق السياسي ومشاعر التدين الزائفة افتتح الكونجرس رقم 112 يومه الأول بقراءة الدستور الأميركي جهراً، مشيراً إليه على أنه "نصنا المقدس"، بحيث اصطف 130 عضواً في الكونجرس للمشاركة في قراءة فقرات من الدستور كل يتلو ما تيسر له ليسلم النص إلى زميله وهكذا حتى انتهى هذا الطقس الغريب وغير المسبوق. والحقيقة أن العملية بمجملها اكتست غطاء طقوسيّاً يحيل إلى ما يشبه الحفل الديني. وما كان لهذا الطقس أن يثير الانتباه ويطرح التساؤلات لو لم تكن له مقاصد عميقة وأهداف تتجاوز مجرد الاحتفال، فهذه الميول إلى "تأليه" الأمة الأميركية والتمسح بكل رموزها وإيقوناتها ذو تاريخ قديم، إذ أنها ليست المرة الأولى التي يلجأ فيها الأميركيون إلى تقديس رموزهم والإعلاء من شأنها، ففي الأوقات الحرجة واللحظات المفصلية من التاريخ مثل الحروب وغيرها يظهر هذا "التأليه" أو "العبادة الطقوسية" أكثر من السابق. لكن المشكلة مع النزوع الأميركي إلى "تقديس" الرموز وتحويلها إلى طقوس للعبادة تكمن في أنها لا تشكل قوة تحفز على توحيد الأميركيين لمجابهة الأخطار والتحديات المشتركة، بل غالباً ما تؤدي هذه الممارسة إلى الإعلاء من شأن الرموز العادية وتقديسها بطريقة تضفي عليها تأويلات خاصة بهدف استغلالها لضرب الخصوم والانتقاص منهم. وقد رأينا جزءاً من هذا الاستغلال السيئ لرموز أميركا عبر التعصب والمغالاة في الوطنية التي لجأت إليها السلطات لتعبئة الناس في الحرب العالمية الأولى. ولكن مشاعر الوطنية سرعان ما تحولت بعد الحرب إلى هستيريا جماعية تستهدف الأجانب. والأمر نفسه تكرر خلال الحرب العالمية الثانية عندما أفسح التعصب الوطني المجال أمام كراهية الأجانب والتمييز ضدهم دون أن ننسى ما حدث أثناء حرب فيتنام والاستقطاب الحاد بين معسكرين أحدهما مساند للحرب والآخر مناهض لها، مع اتهام المناوئين بـ"الخيانة" الوطنية فقط لأنهم كانوا يدعون للسلم ووقف الحرب. واليوم نشهد الموجة ذاتها بعد هجمات 11 سبتمبر والدخول في حربين كارثيتين والانهيار الاقتصادي وفقدان الثقة في مؤسسات الحكومة، بحيث تسعى بعض الجهات إلى استغلال "أميركا" برموزها التاريخية المستقرة في الوجدان الشعبي وتسخيرها لتحقيق أهداف سياسية، وقد رأينا صعود هذا التوجه بشكل واضح خلال إدارة بوش في الخطاب المستخدم لتصبح أكثر بروزاً أثناء الحملة الانتخابية لعام 2008 عندما تدثر المرشحان الجمهوريان "جون ماكين" و"سارة بالين" بالعلم الأميركي في حركة استعراضية يراد منها التأكيد على وطنية المرشحين وفي نفس الوقت التشكيك في مدى التزام أوباما بالدفاع عن الأمة حتى لو كان هو أيضاً مواطناً أميركيّاً، هذا ناهيك عما أثير من لغط حول عدم وضع أوباما ليده على قلبه أثناء عزف السلام الوطني. والحال أن الرفع من شأن ممارسات تافهة وتحميلها أكثر مما تحتمل هو أقرب إلى الطقوس الشعائرية منه إلى العمل السياسي الجاد، كما أن الفكرة التي تقول إن الأشخاص الذين يؤمنون بمجموعة من الممارسات هم فقط من ينتمون إلى "الدين الحقيقي" هو من علامات التعصب الديني وليس من الممارسة السياسية في شيء. ومع صعود أمثال "راش ليمبو" و"جلين بيك" وباقي أعضاء وقيادات تيار "حفلة الشاي" بعد انتخابات الكونجرس الأخيرة أصبحت ثنائية "الوطنيين الأميركيين" مقابل "المتقاعسين" أكثر وضوحاً من ذي قبل، وهم يعتمدون في ذلك على استعراض مجاني لبعض رموز الوطنية، معتبرين أنفسهم ثوريين جدداً يسعون إلى إنقاذ الجمهورية. ووفقاً لعقيدتهم فليس تيارهم مجرد حركة "وطنية" ضمن حركات أخرى في أميركا، بل هم الوطنيون الوحيدون الجديرون بهذا الاسم. وهذا يعيدنا إلى طقس قراءة الدستور في الكونجرس ووصفه بأنه "نصنا المقدس"، فضلًا عن إصرار أعضاء الكونجرس على الاستشهاد بالدستور في كل تشريع يراد تمريره، ليتضح أن ما يحرك تيار "حفلة الشاي" ليس الوطنية بقدر كراهيتها الشديدة لـ"الحكومة الكبيرة" معتقدين أن كل سياسات "الديمقراطيين" انتهكت الدستور الذي رفعوه إلى مرتبة التقديس. واللافت أنه في الوقت الذي ينهمك فيه الكونجرس في قراءة الدستور جهراً لا يعرف معظم الأميركيين ما هو الدستور وما يتضمنه من مواد وفقرات، فهو أولاً ليس نصّاً مقدساً كما ذهب إلى ذلك أعضاء الكونجرس من "الجمهوريين" لأن واضعيه بشر وقد خضع للتعديل مرات عديدة. وبالطبع لا يعرف الأميركيون ذلك ما دام أعضاء الكونجرس اختاروا فقط النسخة المنقحة من الدستور دون الإشارة على سبيل المثال إلى البنود السابقة التي أزيلت والمتضمنة لنصوص تقر العبودية والتمييز ضد النساء. هذا بالإضافة إلى الانتهاكات الكثيرة للدستور التي حدثت تحت أعين الكونجرس، وحسب استطلاعات الرأي فإن قلة قليلة من الأميركيين تعرف مثلاً أن المواد العشر الأولى من الدستور تسمى "ميثاق حقوق الإنسان"، وهو الميثاق الذي ضربت به عرض الحائط إدارة بوش في أكثر من مرة خلال حروبها المتعددة دون أن يحرك "الجمهوريون" ساكناً، وخاصة أعضاء حركة "حفلة الشاي". والحقيقة أن "التقديس" المفتعل هو ما يثير قلق المراقب، إذ لم يعد النقاش بين الأميركيين سياسيّاً يبحث في القضايا الأساسية التي تهم الرأي العام، بل تحول إلى ما يشبه الممارسة الدينية المتعصبة التي لا تقبل الاختلاف والمعارضة وترى في كل من يتبنى رأياً مغايراً إما "خائناً" أو "خارجاً عن الملة". ومع أن هذا التفكير الذي يدافع عنه تيار بعينه داخل "الجمهوريين" لم يكتسح بعد الساحة السياسية وما زال غريباً عنها، إلا أن فرض طقوس معينة على الكونجرس وإضفاء هالة من القداسة المزعومة عليها يؤشر إلى النفوذ الذي بات يمتلكه ذلك التيار اليميني ضمن مؤسسات الحكم في أميركا.