هذا تقريباً عنوانُ كتابٍ جَماعيٍّ صدر عن "مركز دراسات الوحدة العربية" ببيروت، وما ذكر عنوان الكتاب العالم العربي، بل الوطن العربي. لكن عندما نقرأُ مقالات الباحثين عن الحالات الأربع: لبنان ومصر والمغرب والبحرين، نجد أنه في حالة "الحركات الاجتماعية" تتنوع الجذور والصِيَغ، وتكادُ القواسم المشتركة بين المجتمعات تختفي بالتدريج؛ بحيث لا يمكن للوطن لفظاً أو مفهوماً أن ينطبق عليها. والواقع أنّ مقدمة الكتاب لا تعترف بأية قواسم مشتركة باستثناء الطابع الاحتجاجي لهذه الحركات. وذِكْرُ هذه السِمة باعتبارها قاسماًَ مشتركاً بين الحركات، بالإضافة إلى عوامل أُخرى، هو الذي صرف الدارسين لملفّات الحركات الاجتماعية في البلدان الأربعة، عن معالجة مسائلها من وجهة نظر دُعاة "المجتمع المدني" في عوالم الغرب. فأولويات"لمجتمع المدني" في عوالم الغرب، أسهمت في إنشاء الدولة الحديثة وهي تشارك بقوةٍ فيها، ثم إنها ظلّت رقيباً نقدياً عليها، واستقلّت وتستقلّ بنشاطاتٍ وفعاليّاتٍ تتجاوز التصحيح والاحتجاج إلى مجالاتٍ تتراوحُ بين الأُفقين الإنساني والخاصّ. وهناك عاملٌ آخر ربّما تسبب في إقصاء مقولة المجتمع المدني أو التقليل منها في الدراسة، وهو ما يظهر من خصوصياتٍ شعبويةٍ لدى المجتمعات الغربية (أكثر من الدول) تُجاه العرب والمسلمين؛ بحيث يتعذّرُ أو يصعُبُ اعتبار الميول الجديدة من ثوابت المجتمع المدني المتعارَف عليها. إنما بغضّ النظر عن هذين العاملَين: كيف ننظر إلى الحركات الطلاّبية بأوروبا في أواخر الستينيات، وهي بالتأكيد حركات احتجاجية، فهل هي جزءٌ من "المجتمع المدني" أم خارجةٌ عنه، لأنها أرادت الاحتجاج على الأنظمة بل تغييرها وإسقاطها؟! على أنني ما ذكرتُ كتاب "الحركات الاحتجاجية" هذا للدخول في نقاشٍ أكاديمي بشأن"المجتمع المدني"، وهل هو متوافرٌ في العالم العربي أم لا؟ هذا السؤال بشقَّيه صار ضرورياً، لأننا ما عُدْنا نملكُ آلياتٍ اجتماعية أو سياسية للتغيير السلمي، عبر الانتخابات الحُرَّة أو عبر الحركات الجماهيرية الواسعة التي تضطر النظم للاستجابة أو للتغيُّر. لدينا فقط الحركات والأحزاب الإسلامية، وهي وإن امتلكت جانباً احتجاجياً، فإنها حركاتٌ أُصولية، لديها رؤيةٌ جاهزةٌ لدولةٍ سلطويةٍ قاسية تحت اسم الدولة الإسلامية. وهي إن لم تنجح في الوصول للسلطة فإنها تتحول بسرعةٍ نحو العنف أو السعْي للانفصال بجزءٍ من المجتمع أو من الدولة. وهي إذا كانت (في الحالة السلطوية) إنما تقلّد الأنظمة التي تتمردُ عليها؛ فإنها في الحالة العنيفة أو الانفصالية، لا تفعلُ ذلك مُصادفةً، لأنها تعتبر أنها تمثّل مجتمع المؤمنين، ومجتمع تطبيق الشريعة وليس غير. ولذا لا يُهمُّها التخلّي عن النصف الآخَر من المجتمع أو اضطهاده وممارسة العنف عليه. يخوض عبد الرحيم منار السليمي كاتب مقالة "الحركات الاحتجاجية في المغرب"، نقاشاً شبه أكاديمي حول طبيعة الحركات الاحتجاجية الإسلامية، وهل هي حركاتٌ أصيلةٌ وباقيةٌ أم عارضة؟ ويصل إلى أنها حركاتٌ باقيةٌ، لاتّخاذها صُوَرَ وترتيبات الحركات والأحزاب الحديثة، وانتهاجها نفس الأساليب، واستمرارها على مَدَياتٍ طويلةٍ تبلُغُ حتى الآن عدة عقود. وأنا أتفقُ معه أنها قد تكون حركاتٌ باقيةٌ في المدى المنظور، لكنْ ليس بسبب أصالتها الاجتماعية والثقافية، ولا لأنها تعلّمت الأساليب الحديثة في التنظيم والترتيب. فعندي من الأسباب ما يدفعُني للقول إنها جديدةٌ تماماً من حيث الأصول والإشكالية. إذ أكثر مُناصريها من البورجوازية الصغيرة، وهي فئاتٌ ظهرت على حواشي المُدُن وقُرى الصفيح المتكوِّنة قبل خمسين عاماً، وقد هاجر بعضُ الآباء والأبناء إلى أوروبا وبقوا في الحالة نفسِها. وفي أوساط هؤلاء ظهرت الأُصوليات بمختلف أشكالها، واتخذت سِمات راديكالية يسارية أولاً، ثم إسلامية لاحقاً. إنها فئاتٌ جديدةٌ منبتّة الجذور من وجهة نظر الاستمرارية الاجتماعية. أمّا الإشكالية التي تغلغلت في صفوفهم، فتجنّدوا لها بحماسٍ، فهي إشكالية إقامة المجتمع الإسلامي المثالي الذي يُطبِّقُ الشريعة. وهذه الإشكالية منقولةٌ إليهم من جانب كهولٍ من المُدُن، ومن البورجوازية المتوسّطة، وممن تلقَّوا تعليماً أفضل، وتقزَّزوا من "استغلال" الغرب، ومن مظالم الأنظمة على حَدٍّ سواء. وهذه الإشكاليةُ جديدةٌ على المجتمعات الإسلامية أيضاً، لأنّ إسلامَ أهل السنة والجماعة يقوم على أن "الجماعة" أو المجتمع في مجموعه هو الذي يعتنق الإسلام، وهو الذي يحرسه ويقومُ عليه وينشُرُ دعوته. وبالتالي فغيرُ متصوَّرٍ أن تطالب فئةٌ بتطبيق الشريعة، لأنّ المجتمع يكونُ قد خلا منها. فحتّى الدعوة السلفية السنية المتشدّدة، والتي تطالب بذلك تقريباً منذ قرنٍ ونصفٍ ما حظيت بتأْييدٍ من غالبية المسلمين، لأنها تستدعي التكفير أو التفسيق، كما تستدعي اعتبار الشريعة بمثابة القانون الذي تقوم على إنفاذه بالقوة والقهر مجموعةٌ متسلِّطةٌ باسم الدين. وإذا كان الأمر كذلك، أي أنّ الحركات الاحتجاجية الإسلامية، جديدةٌ من حيث الأصول والثقافة (أي مقطوعة عن المجتمع التقليدي)، فلماذا حظيت وتحظى بشعبيةٍ بين العامّة، ولماذا تستثير خيال وولاءَ تلك القِلة من الشبان المعدمين المتحمِّسين؟ الذي أعتقده أنّ ذلك تحقَّقَ لهؤلاء الإسلاميين الجُدُد بسبب طبيعة الأنظمة السائدة في العالمين العربي والإسلامي. لقد حظي نقد الغرب، وحظيت الحملةُ عليه من القوميين واليساريين والإسلاميين بشعبيةٍ كبرى، للحقبة الاستعمارية الطويلة، ولحقبة التبعية الاقتصادية والسياسية إبّان الحرب الباردة. ثم إنّ الأنظمة العسكرية والأمنية جثمت على صدر العالم العربي لأكثر من أربعة عقودٍ دونما إنجازاتٍ ظاهرةٍ داخلياً أو خارجياً. ولأنّ هذه الأنظمة استخدمت القومية واليسار التقدمي لتُحمى من جانب الاتّحاد السوفييتي؛ فإن الجيل التالي من اليسار، سارع إلى الانضواء تحت رايات الإسلاميين معتدلهم ومتطرفهم، اعتقاداً منه أنه لا خلاصَ من هذه الأنظمة وأسيادها الغربيين إلاّ بالإسلام أو الدولة الإسلامية التي تُطبِّقُ الشريعة. ومع هذه الحركات الاحتجاجية الشعبوية، جاءت أمراضُها المُلازمة مثل العنف والانقسام والانفصال والتشرذُم؛ في حين ما عادت الأكثرية الاجتماعية تدري ماذا تفعل. فهي لا تستطيع المُضيَّ مع الانقسام العنيف أو غير العنيف. وفي الوقت نفسِه لا تتحمس بالطبع لبقاء الأنظمة بدون تغيير، والتي لا فضيلةَ لها غير هذا الاستقرار المهزوز والذي لم يَعُدْ متحقِّقاً بالحدّ الأدنى! الأنظمة الخالدة إذن بدون تغيير مشكلةٌ كبرى. والحركات الاحتجاجية الدينية مشكلةٌ لا تقلُّ هَولاً. والجمهور العربي ضائع بينهما، حيث لا شرعية ولا مشروعية لكليهما. ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.