رغم التصريحات الإيجابية التي أطلقها الرئيس السوداني عن استعداده لتقديم الدعم للجنوب حتى في حال أصبح دولة مستقلة، وقوله بأن حجم المصالح والروابط المتبادلة بين الشمال والجنوب غير موجود بين أي بلدين في العالم، وبأن الفوائد التي يمكن أن تتحقق عبر الوحدة يمكن أن تحقق أيضاً من خلال دولتين... رغم ذلك فالواقع هو أن السياق العام، متمثلاً في خبرات الماضي وطبيعة التركيبة السكانية والعرقية في السودان، يقتضي أن نكون أكثر واقعية في تخمين المستقبل. وباستعراض المشاكل المتوقعة في مرحلة ما بعد الاستفتاء، نستطيع رسم صورة أكثر وضوحاً لتلك المرحلة. إن انفصال الجنوب سيخلق مشاكل جديدة للحكومة المركزية في الخرطوم ومشاكل أكثر حدة للدولة الجديدة في الجنوب. في الشمال سيواجه البشير مشاكل جديدة تتعلق بالاقتصاد، وتقلص الدخل، والهجرات بين الشمال والجنوب... وستكون هذه المشاكل أكثر تعقيداً إذا أصرت الخرطوم على تطبيق الشريعة الإسلامية، إذ من شأن ذلك تهميش العناصر غير العربية وغير المسلمة في الشمال، ما يمهد الطريق لبروز حركات مسلحة جديدة. ففي السودان كثير من المسلمين لا يدعون الأصل العربي، ومنهم "البجا" الذين يقطنون تلال البحر الأحمر، والنوبيون في جبال النوبة، وهم يمثلون أكثر من خمسين جماعة عرقية تتحدث ما يزيد على سبعين لغة مختلفة ويمارسون دياناتهم الإفريقية التقليدية. والحقيقة التي يعرفها الجميع أنه توجد في السودان نحو 600 جماعة عرقية ولغوية، فالسودانيون منقسمون إلى مسلمين وغير مسلمين، وحتى العرب منقسمون لعدة جماعات ولا يشكلون جماعة متماسكة... فالتنوع العرقي واللغوي هناك بالغ التعقيد. لذلك دعت المعارضة السودانية في الشمال إلى تشكيل حكومة انتقالية بعد الاستفتاء لتفادي مزيد من التمزق في البلاد. لكن ما هي طبيعة النظام السياسي الذي سيتولى السلطة في الجنوب؟ حتماً سوف تحكم "الحركة الشعبية لتحرير السودان"، وسوف تنفرد بالسلطة في الجنوب بقيادة سيلفاكير وبدعم قوي من قبيلة الدينكا التي ينتمي إليها. أما تحقيق الاستقرار فيعتمد على مدى الدعم الذي ستتلقاه الحكومة من زعماء القبائل الأخرى التي تتنازع على السلطة هناك. ثم إنه لا توجد في الجنوب نواة لدولة حديثة، والنظام المتوقع قيامه سيكون أقرب إلى تكوين مقاطعات عرقية تساوي بين الانتماء العرقي والحكم وتجعل ذلك أساساً للحصول على الموارد المادية. ومن المشاكل الأخرى التي يتوقع أن تواجه حكومة الجنوب، ما يتعلق بكيفية التعامل مع المسلمين الجنوبيين، والذين يشكلون نحو 33 في المئة من السكان هناك. وثمة سؤال آخر حول الطريقة التي ستعتمدها حكومة الجنوب في التعامل مع العنف داخل المجتمعات الرعوية، خصوصاً بعد أن اتخذ طابعاً سياسياً خلال السنوات الأخيرة... ففي عام 2009 مثلاً قتل آلاف المواطنين الجنوبيين في إطار الصراع على المناطق الرعوية. وأخيراً ليس من مصلحة الحكومة المركزية في الشمال ولا الحكومة الجديدة في الجنوب، الاستمرار في اتهام كل طرف للآخر بأنه السبب في تردي أوضاع السودان. وتبقى الخشية من أن انفصال الجنوب سيشكل سابقة لانفصالات أخرى في الشمال والجنوب، لذلك ينبغي للطرفين التركيز على بناء بلدهم، وإشراك القوى السياسية، وتحسين مستوى معيشة السكان... بدلاً من شراء الأسلحة لخوض حروب خاسرة.