في عام 2007، اعتقلت السلطات الهندية بولاية "تشاتيس غرة" الطبيب "بيانياك سين"، طبيب الأطفال والناشط البارز في "الاتحاد الشعبي للحريات المدنية" الذي يدافع عن حقوق الإنسان، بتهمة التواطؤ مع الحركة "الماوية" في الهند، وهي الجماعة المحظورة التي تستخدم العنف لقلب النظام، وبعد ثلاث سنوات على اعتقال الناشط الحقوقي الذي قدم خدمات جليلة إلى الفقراء والطبقات المحرومة في القرى والبلدات الهندية النائية والمهمشة ما أصدرت المحكمة قرارها بالسجن المؤبد لأنه كما جاء في منطوق الحكم متورط في إشعال الفتنة والتحريض على التمرد ضد الحكومة من خلال مساعدة "الماويين"وتقديم الدعم لحركتهم، إلا أنه وفي خطوة أكدت مدى حيوية الديمقراطية الهندية سرعان ما قوبل قرار المحكمة ضد "سين" بموجة واسعة من الانتقادات من مختلف قوى المجتمع الهندي بدءاً من منظمات المجتمع المدني وليس انتهاء بالأحزاب السياسية والأكاديميين والخبراء القانونيين الذين هبوا جميعاً للدفاع عن الناشط الحقوقي والطعن في الحكم الصادر عن المحكمة. وقد طالب جميع هؤلاء بمراجعة الحكم، كما عبروا عن غضبهم للتهم الموجهة للطبيب "سين"، لأنها استندت على قانون قديم يرجع إلى فترة الحكم الاستعماري البريطاني للهند؛ وفي ملابسات القضية وجه الإدعاء تهماً إلى الناشط البالغ من العمر 58 عاماً تفيد بأنه كان يقوم بدور حامل الرسائل بين المنظر "الماوي" المعتقل في السجن "نارايانان سانيال" وبين العناصر "الماوية" الأخرى التي ترفع السلاح في وجه الحكومة، والحقيقة أنه تطغى حالياً في البلاد مشاعر منتشرة على نطاق واسع، مؤداها أن العدالة في الهند تعرضت إلى ضربة قوية بعد صدور الحكم على "بيانياك سين"، ويذهب مؤيدوه إلى أن القرائن والأدلة التي بنى عليها الادعاء في القضية، بدت هشة ولا تعتمد على أسانيد قانونية قوية، وهو ما حدا بالعديد من المنظمات إلى تسيير مظاهرات احتجاجاً على قرار المحكمة، والتوقيع على عرائض وملتمسات مطالبة بالإفراج عن الناشط الحقوقي. لكن وخلافاً للصين، تبقى حركة الحقوق المدنية في الهند قوية وتحظى بمساندة واسعة من الرأي العام بفضل التقاليد الديمقراطية الراسخة، التي تبرز إلى السطح كلما تعرض النظام القضائي في الهند إلى اختبار كما هو الحال اليوم، فما أن أصدرت المحكمة الابتدائية حكمها بسجن الطبيب "سين" مدى الحياة حتى بدأت حملة الدفاع عن إطلاق سراحه، ومراجعة القانون الذي اعتمد عليه الادعاء في التبلور ليصل الأمر إلى التشكيك في قانون الفتنة الموروث من الحكم البريطاني للهند، وهو القانون نفسه، الذي استُخدم من قبل بريطانيا لسجن "الماهاتما غاندي". وبالإضافة إلى ذلك يشير الخبراء القانونيون إلى أن توجيه تهمة التحريض على الفتنة لأي شخص يحتاج إلى أدلة قوية، وأنه قبل إدانة المتهم يتعين أولاً "التأكد بما لا يدع مجالا للشك من صحة التهمة الخطيرة الموجة للمُدعى عليه". والحال أن الادعاء بنى القضية هذه على بعض قصاصات الجرائد حول الحركة "الماوية"، وعلى مجلة نشرت حواراً مع أحد قادة الحركة "كيتشان جي" كان قد تم العثور عليها في مسكن الطبيب "بيانياك سين"، وهو ما أدى إلى توجيه انتقادات حادة إلى الادعاء من قبل الحقوقيين لتسمر الضغوط والدعوات المطالبة بإطلاق سراح الناشط فوراً سواء من داخل الهند، أو خارجها. فقد عرض "رام جيث مالاني" زعيم حزب "بهارتيا جاناتا" المعارض، والذي يعد أحد المحامين المرموقين في البلاد الدفاع عن الدكتور "سين" أمام محكمة الاستئناف بعد تقديم طلب الطعن في قرار المحكمة، كما دعا "ديغ فيجاي" القيادي في حزب "المؤتمر الوطني" إلى مراجعة حكم المحكمة وإعادة النظر فيه، منتقداً الحكم بالمؤبد على ناشط حقوقي يدافع عن المهمشين في الهند. وفي السياق نفسه أعلن الفائز بجائزة نوبل "أمارتيا سين" دفاعه غير المشروط عن الدكتور "سين" واصفاً إياه بأنه "أحد المساعدين الاجتماعيين المخلصين"، بل امتد الأمر في الدفاع عن الناشط الحقوقي إلى شخصيات أكاديمية عالمية مثل نعوم تشومسكي الذي أصدر إلى جانب 81 شخصية عامة من الأكاديميين والصحفيين والمخرجين بياناً ينددون فيه بقرار المحكمة. والحقيقة أن المحكمة الابتدائية بإنزالها عقوبة السجن المؤبد على "سين" تكون قد ألحقت ضرراً بالغاً بالعدالة الهندية، إذ مازال غير معروف الأرضية التي استندت إليها المحكمة لإصدار قرارها القاسي. فلو كان الدليل هو نقل رسائل من قائد "ماوي" مسجون إلى عناصر في الخارج فإنه من الصعب التعامل مع الدليل على أنه "قاطع ولا يرقى إليه الشك". أما إذا كان الدليل هو المجلة التي عُثر عليها في بيته وتضم حواراً مع أحد قادة الحركة "الماوية"، فإن الأمر مجرد استهتار بالجهاز القضائي وبحرية التعبير. وهذا القرار الذي هز صورة العدالة في الهند، دفع العديد من المنظمات الأهلية مثل المجتمع الهندي لشبكات النشطاء الحقوقيين، الذي يضم أكثر من 25 منظمة في مجال الدفاع عن الديمقراطية في الهند، إلى وصف قرار المحكمة بأنه "ضربة ضد العدالة ومؤشر على الظلم واغتصاب الديمقراطية". وقد شككت المظلة الحقوقية التي تضم شخصيات بارزة مثل "أرونا روي"- القيادية في حزب "المؤتمر" والعضو في اللجنة الاستشارية القومية التي تترأسها زعيمة الحزب "سونيا غاندي"- في قرار المحكمة، حيث تساءلت "روي" كيف يمكن لناشط اجتماعي مثل "بيانياك سين" تهديد الدولة في الوقت الذي يساعد فيه الفقراء في المناطق القبلية البعيدة على مواجهة أعباء الحياة، بل إن "محمد منظور عالم"، الأمين العام لحزب "الهند ميلي" عبر عن تخوفه من يكون الحكم إيذاناً "بتراجع الديمقراطية في الهند وتحولها إلى دولة بوليسية"، لكن ومع أن مصير الطبيب "سين" مازال معلقاً، لا شك أن الديمقراطية الهندية بخير بفضل نظام المراقبة واليقظة الذي يحميها من الانزلاق.