الحفاظ على استقلال الأوطان ضد العدوان الخارجي وعلى وحدتها ضد الانفصال الداخلي عادة هو الهدف القومي الأول للحكومات والدساتير والقوانين والمجالس النيابية وتنظيمات المجتمع الوطني. والتفريط في وحدة الأرض ووحدة الشعب غير مقبول في شعب متعدد الأعراق والديانات والأعراف والتقاليد ضد مخاطر التفتيت العرقي والطائفي وحركات الانفصال مرة في الجنوب ومرة في الغرب، دارفور، ومرة في الشرق، كردفان، ومرة في الشمال، النوبة، حتى يتقلص الوطن ويصبح القلب، الخرطوم، حول العاصمة. وهي أزمة مزمنة منذ ما سمي اكتشاف أعالي النيل في عصر محمد علي. واستمرت بعد احتلال بريطانيا للسودان ومصر، ووضع حدود مصطنعة بينهما. وتواصلت بعد الاستقلال في 1956. وتعود من جديد بعد الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب التي انتهت باتفاقية "نيفاشا" وتطبيقها انتهاء بالاستفتاء المصيري بعد غد، مع صعوبة ترسيم الحدود والخلاف حول منطقة "أبيي" حيث يتعايش فيها العرب والأفارقة. وحكومة الخرطوم هي المسؤولة عن ذلك، فقد نظرت إلى الجنوب باعتباره من الأطراف، فكل ما يخرج عن العاصمة، الخرطوم، من الأطراف في الجنوب والشرق والغرب والشمال. وكانت القبائل الشمالية تقوم بغزوات وغارات على الجنوب باعتباره منطقة مغايرة إلى حد تجارة الرقيق، واستغلال موارده، وتركه متخلفاً فقيراً بلا خدمات أو خطط للتنمية. وهو غني بالمياه والنفط والموارد الطبيعية والعمالة والأسواق. لم تعنَ الخرطوم بالتعريب كما فعلت الجزائر بعد الاستقلال بفضل مساعدة مصر وسوريا. وأهملت التعليم الوطني. فاستمرت العادات والتقاليد القبلية دون تغيير. وأخيراً فكرت مصر في إنشاء جامعة في جوبا عاصمة الجنوب. وعلى رغم انتشار الإسلام في أفريقيا سلماً، بالطبيعة والفطرة، أو عن طريق الطرق الصوفية، فإن جهود التنصير اشتدت في الجنوب بالمزايا والإغراءات والخدمات العامة، التعليم، والصحة، والبعثات إلى الخارج، وإيجاد فرص للعمل، وتحسين الأوضاع الاجتماعية. فعلاقة الجنوب بالغرب المسيحي أفضل من علاقته بالشمال الإسلامي. وتقدم مميزات أكثر. وعلاقة الجنوب بالغرب ودولة إسرائيل تحقق مطالبه بعد أن عجز الشمال عن تحقيقها، بناء السدود، ومشاريع الري، وخطط التنمية. والهدف البعيد من ذلك كله هو فصل أطراف الوطن العربي عن قلبه، وتقليصه من حدوده. (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) في الدول الأفريقية التي يكثر فيها المسلمون في الشمال والمسيحيون في الجنوب، السودان ونيجيريا، وساحل العاج وغيرها من دول وسط وغرب أفريقيا، وفي الدول الإسلامية من الشرق، الفليبين وبورما وتايلاند، وفي دول شرق أوروبا من الشمال طبقاً لسياسة التفتيت الطائفي والعرقي للعالم الإسلامي بعد إخضاع جسده في الوطن العربي، وطعن قلبه في مصر. فهل يكون الحل هو الترحيب بانفصال جنوب السودان، وتعويض هذه الخسارة الوطنية، وفقدان نصف الوطن بتطبيق الشريعة الإسلامية في الشمال، وجعلها المصدر الرئيسي للتشريع في الدستور، واللغة العربية اللغة الرسمية للبلاد؟ إن الحفاظ على وحدة الأوطان، في نظري، مقدم على تطبيق الشريعة في مجتمع متعدد الأعراق والملل. ولا يمكن لهزيمة فعلية في الجنوب في حالة الانفصال أن يعوضها نصر زائف في الشمال. إن ادعاء تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان كان أحد أسباب الانفصال. فلماذا تطبق الشريعة على غير المسلمين وهم الأغلبية في الجنوب؟ وهل الشريعة الإسلامية هي فقط الحدود، الصلب والرجم والجلد وقطع اليد، أم أن الشريعة الإسلامية هي إعطاء الناس حقوقهم، حقوق الفقراء في أموال الأغنياء، وحقوقهم في بيت المال، وعلاج المرضى، وري العطشى، وإيواء المشردين، وكسوة العرايا، وتعليم الأميين؟ فلا تطبق الحدود في مجتمع بلا حقوق. والحقوق تسبق الواجبات. وتطبيق الشريعة يعني تحقيق مقاصدها الخمسة: الحفاظ على الحياة ضد الكوارث والأمراض والحروب الأهلية والعدوان على الآمنين وكل ما يؤدي إلى الموت. والحفاظ على العقل أي توفير التعليم ضد الجهل والأمية والخرافة. والحفاظ على الدين وهو قضاء المصالح العامة للناس وليس فقط العقائد أو العبادات بل أيضاً المعاملات طبقاً لقيم الحرية والعدل والمساواة. والمحافظة على العرض ضد انتهاك الأعراض واختطاف النساء وبيع الأطفال في أسواق النخاسة. والمحافظة على المال أي الثروة الوطنية ضد نهبها وحرمان الناس منها وسوء توزيع الدخل القومي بين الجنوب والشمال بل بين الشماليين أنفسهم والجنوبيين أنفسهم. وقد كان غير المسلمين في الأندلس يذهبون إلى المحاكم الإسلامية لعدالتها وليس إلى المحاكم المسيحية أو اليهودية. وبهذا المعنى فربما كانت مطالب الجنوب في الحرية والعدالة والمساواة أقرب إلى روح الشريعة الإسلامية من الدعوة إلى تطبيق الحدود في الشمال. وإن علمانية الجنوب لو خلصت النوايا وحسن فهم العلمانية بأنه حكم العقل والعلم والتقدم وحقوق الإنسان وليس المعنى الغربي بناء على تجربة صلة الكنيسة بالدولة، ربما تكون في مراميها البعيدة ومقاصدها أقرب إلى روح الإسلام من تطبيق الشريعة كما يدعو إليها الحكم في الشمال. والمواطنة التي يدعو إليها الجنوب ربما تكون أقرب هي أيضاً إلى روح الشريعة الإسلامية التي تتساوى فيها حقوق المسلمين مع غير المسلمين كما كان الحال في ميثاق المدينة. والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين بصرف النظر عن مللهم وأعراقهم تطبيق لروح الشريعة أكثر من التمييز بينهم طبقاً للدين أو القبيلة. إن السلطة بيعة وشورى بصرف النظر عن الجنوب أو الشمال. هي اختيار حر من الناس. وتوزيع الثروة على الناس طبقاً لمبادئ المساواة والعدالة الاجتماعية، والاستفتاء لكل المواطنين في الشمال والجنوب وليس فقط في الجنوب وحده. ولا أحد يستفتي جزءاً من المواطنين على مصير الوطن. ولا أحد يستفتي الوطن على الوحدة أو الانفصال. إن أزمة الديمقراطية في الحكم لا تـُحل بانفصال جزء من الوطن عن وحدة التراب الوطني. وأزمة التخلف في السياسة لا تحل بتخلف آخر في الانفصال. وإن نقص المواطنة لا يحل بمواطنة بديلة. إن مطالب جزء من المواطنين في الجنوب مطالب شرعية وطنية، لا تـُجاب بالانفصال بل بقبولها من نظام وطني ديمقراطي، شورى بين الناس، وبيعة منهم. الزعيم فيه آخر من يأكل، وآخر من يلبس، وآخر من يسكن. "والله لو عثرت بغلة في العراق لسئلت عنها يا عمر لماذا لم تسوِّ لها الطريق؟" إن العروض الثمينة التي يقدمها الشمال إلى الجنوب بالتنازل عن نفط الجنوب، والمشاركة في السلطة، وإعادة توزيع الدخل القومي بما يحقق أكبر قدر ممكن من العدالة والمساواة كان الأولى بها أن تقدم بالأمس قبل اليوم حفاظاً على وحدة الأوطان دون تعويضها بإيهام الناس بمكاسب وهمية لا تعوض الخسارة الوطنية.