مع احتدام النقاش حول الإنترنت والتشكيك في حجم ومدى الحريات التي تتيحها، وفي ظل الجدل الذي أثاره موقع ويكيليكس، برزت بعض الكتابات محاولة التصدي لحرية الإنترنت ليس بقصد التضييق والخنق كما تسعى إلى ذلك الأنظمة الشمولية في العالم النامي، بل لفهم أعمق لمحاسن الإنترنت ومساوئها أيضاً. وهذا ما يناقشه كتاب "الإنترنت المسيئة... التعبير والخصوصية والسمعة" لمجموعة من المؤلفين على رأسهم "مارثا موسابوم" أستاذة القانون والفلسفة بجامعة شيكاجو، والتي تحاول مع باقي الباحثين تسليط الضوء على الجوانب السلبية للإنترنت، لاسيما بعد تكاثر شكاوى متصفحي العالم الافتراضي من انتهاك خصوصيتهم، فضلاً عما أثاره موقع "فيسبوك" من جدل حول استغلال معلومات شخصية لرواده من أجل أغراض إعلانية، ناهيك عما باتت تمثله الإنترنت من خلال المدونات الشخصية والمواقع الخاصة من إشكال قانوني حول قضايا التشهير وبث الأكاذيب والإشاعات عن الأشخاص. وفي هذا الإطار تشير المحررة الرئيسية للكتاب (موسابوم) إلى معضلة عدم الإفصاح عن الهوية التي تعد إحدى ركائز الإنترنت الأساسية، فإذا كان القانون الأميركي يبيح لمزودي خدمة الإنترنت عدم نشر أسماء أصحاب المواقع التي تُشهر بالأفراد وتحظر التعامل مع المزودين كناشرين عاديين للمعلومات يتحملون مسؤولياتهم القانونية، فذلك بهدف تجنب المساءلة القانونية. فالمجهولية التي تضمن لأصحاب المواقع والمدونات حجب هوياتهم تسمح على حد قول "موسابوم" بخلق "حيز خال من الشعور بالذنب أو الخجل عما ينشره المدون مما قد يكون فيه إيذاءً الناس وإحراجاً لهم دون أن يتحمل المسؤولية". وتستند قوة المدونين حسب الكاتبة إلى "إمكانية عزل أنفسهم عن العالم الحقيقي وما ينطوي عليه من مسؤوليات، والقدرة في الوقت نفسه على الإضرار بالآخرين في العالم الواقعي". والحقيقة أن الكتاب بمجمله بما يضمه من مقالات متفرقة يتوحد حول سؤال محوري: ما الذي يمكن القيام به إزاء المعلومات غير المسؤولة، تلك المعلومات التي تُسهل الإنترنت عملية نشرها وإذاعتها للناس؟ كما نعلم فإنه من خلال لوحة مفاتيح الكمبيوتر، وبدون أدنى خوف من المساءلة القانونية، يمكن لمزود الموقع الانخراط في نشر إساءات ومعلومات مغلوطة. وبهذا المعنى تتحول الإنترنت إلى ساحة كبيرة للفوضى والقذف ومرتع للمنحرفين والناقمين المستعدين لتحطيم حياة الناس بالنبش في أسرارهم وإذاعتها، أو حتى اختلاق الأكاذيب والافتراءات حولهم. في هذا الإطار يتصدى "كاس سنستاين"، أحد المشاركين في تأليف الكتاب، لمقولة شهيرة مؤداها أن "الإنترنت هي سوق لتلاقح الأفكار" يتعين عدم التدخل لضبطها، وأن الهدف الأسمى من هذا التبادل الحر وغير المنضبط للمعلومات داخل الفضاء الافتراضي هو الوصول إلى الحقيقة وكشفها لمتصفحي الإنترنت. أما عن الإشكالات التي تثيرها هذه المقولة، خاصة فيما يتعلق بفسح المجال للإساءة وتشويه السمعة، فيرد المدافعون عن الإنترنت بالقول إن الفضاء الافتراضي يتيح الرد لمن استشعر الإساءة، وأن هذا التراشق من شأنه إماطة اللثام عن المعلومات الحقيقية التي تهم الجمهور. لكن المشكلة بالنسبة لهذه المقولة أنها عملياً تبقى بعيدة عن الواقع، إذ يصعب التحكم في حجم المعلومات، خاصة عندما تُبنى الإساءات على إشاعات، فمعروف أن التداول السريع للمعلومات بين المتصفحين وإمكانية التعليق والإضافة يضخم من حجم المعلومة الأولية لتتدحرج وتنتهي كبيرة ككرة الثلج. ويُرجع المؤلفون واقع الإنترنت الحالي المفتوح على الإساءة وتشويه السمعة إلى مبدأ حرية التعبير الذي يُستغل في غير محله، فعندما تنظر المحاكم في قضايا معروضة أمامها تتعلق بتجاوزات أصحاب المواقع، أو المدونات غالباً ما يتم تغليب حرية التعبير على أنها أحد الأسس المنصوص عليها في الدستور الأميركي، بل مطلوبة لكشف فضائح الشخصيات العامة. لكن ماذا عن الأخطاء التي ترتكب على صفحات الإنترنت؟ ومن يعوض عن الأضرار التي يتعرض لها الأفراد؟ هنا يقترح "سول ليفمور"، أحد المؤلفين، جعل الحصانة التي يتمتع بها مزودو خدمة الإنترنت مرهونة بشرطين: أن يمارس المزود مسؤوليته في حذف المواد المسيئة، أو رفع المجهولية عن المزود وأصحاب المواقع ومن ثم إتاحة الفرصة للمقاضاة أمام المحاكم لإنصاف ضحايا التشهير المجاني. زهير الكساب الكتاب: الإنترنت المسيئة... التعبير والخصوصية والسمعة المؤلف: مجموعة من المؤلفين الناشر: مطبوعات جامعة أوكسفورد تاريخ النشر: 2011