الاكتفاء بإلقاء القراصنة المعتقلين في عرض البحر لدى السلطات الكينية لتدبر أمرها معهم ينم في الحقيقة عن تحفظ الدول الغنية وعدم رغبتها في محاكمتهم على أراضيها. ديفيد ريفكين المستشار القانوني السابق في إدارتي ريجان وبوش الأب كارلوس راموس مدعٍ عام في نيويورك مختص بالنزاعات الدولية والفيدرالية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبورج نيوز سيرفس" لم يعد الرد الدولي على معضلة القرصنة الصومالية بالسهولة المفترضة بعدما أصدرت ثاني أكبر هيئة قضائية في كينيا خلال الشهر الماضي قراراً يقضي بعدم سريان الولاية القانونية للبلاد على القراصنة الذين يتم اعتقالهم خارج المياه الإقليمية لكينيا، وهو القرار الذي يؤكد الحاجة إلى إطار قانوني دولي وشامل لمعالجة تحديات القرصنة في عصرنا الراهن. وبفضل عدد من الاتفاقات الموقعة منذ عام 2009 مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين وباقي الدول، برزت كينيا كمكان مفضل للقوات البحرية العالمية لتقديم القراصنة المعتقلين في عرض البحر وتقديمهم للمحاكمة، ومن ثم إيداعهم السجن، والحقيقة أن القضاء الكيني بذل قصارى جهده، حيث لاحق عدداً من القراصنة في المحاكم المحلية الذين أدينوا بممارسة القرصنة واعتراض الملاحة الدولة ليُزج بهم لاحقاً في السجن، فيما تم تبرئة آخرين عادة بسبب عدم كفاية الأدلة التي تضيع في غمرة المحاكمة. لكن رغم ذلك ينتظر أكثر من مائة قرصان دورهم للمثول أمام المحاكم، غير أن الجهود القضائية المتواصلة للسلطات الكينية أثقلت كاهل الدولة والمحاكم وهو ما حدا بمسؤوليها إلى الإعلان عن نيتهم وقف الملاحقة القضائية للقراصنة المعتقلين من قبل دوريات بحرية أجنبية ما لم يتلقَ الجهاز القضائي المفتقر للموارد مساعدات مهمة تعينه على الاستمرار في محاكمتهم وسجنهم، ففي الوقت الذي يستطيع فيه القراصنة جني الملايين من الدولارات من الفدى التي يطالبون بها لدى خطفهم سفينة واحدة لا تحصل السلطات الكينية سوى على مساعدات هزيلة، إذ لم يتعدَ المبلغ المخصص لمحاكمة القراصنة في كينيا من قبل مكتب المخدرات والجريمة التابع للأمم المتحدة أكثر من 3.2 مليون دولار على مدى الثمانية أشهر التي أنشئ فيها. لكن قرار السلطات الكينية بالتوقف عن ملاحقة القراصنة لا يخلو من شبهات قانونية، فحسب القانون الدولي يُعتبر القراصنة أعداء للبشرية جميعاً، وهم لذلك يخضعون للملاحقة القضائية والسجن في أي بلد بتهم اعتراض الملاحة الدولية في أعالي البحار. وبمعنى آخر لا يمكن للمحاكم الكينية التنصل من دورها والقول إن ولايتها القضائية لا تنسحب على القراصنة بصرف النظر عن اللوائح والتشريعات المحلية التي تعتمد عليها كينيا. ومع ذلك فإن المشكلة الأساسية ليست ما تقوم به دولة أفريقية فقيرة مثل كينيا، بل هي مرتبطة أكثر بالمقاربة المتراخية وغير الحازمة للمجتمع الدولي إزاء المعضلة، فالاكتفاء بإلقاء القراصنة المعتقلين في عرض البحر لدى السلطات الكينية لتدبر أمرها معهم، يُنم في الحقيقة عن تحفظ الدول الغنية وعدم رغبتها في محاكمتهم على أراضيها. ففي ولاية فيرجينيا الأميركية مثلاً، انتهت المحكمة هناك للتو من محاكمة خمسة صوماليين فقط تورطوا في القرصنة، وهم أول مدعى عليهم في قضية قرصنة يتم عرضهم على المحاكم الأميركية منذ 1819، كما أن محكمة أخرى للجانحين في هامبورج بألمانيا تنظر حالياً في أول محاكمة تخص تهمة القرصنة منذ أكثر من 400 عام، هذا بالإضافة إلى امتناع المحاكم في البلدان المتقدمة عن تحمل التكاليف الباهظة لمقاضاة القراصنة، أو إيداعهم سجونها، دون أن ننسى تخوف تلك الدول من طلب المدعى عليهم حق اللجوء في تلك البلدان بسبب العنف المستشري في الصومال وأزمتها الإنسانية، وهكذا ينتهي الأمر بالدول ذاتها التي نشرت أساطيلها البحرية في المحيط الهندي للتصدي للقراصنة بالتعامل معهم لدى اعتقالهم بتسامح كبير، بحيث تكتفي تلك الأساطيل بنزع سلاح المئات منهم وإطلاق سراحهم ليعاودوا حمل السلاح وممارسة القرصنة. والحقيقة أنه لا يمكن مقارنة تكلفة نشر الأساطيل البحرية في عرض البحر مهما بالغت بالثمن المضاعف لتعطيل التجارة الدولية، بيد أن نظاماً يعتمد على الإفلات من العقاب لا يمكنه أن يشجع على الاستقرار في إحدى المناطق الأكثر اضطراباً في العالم، وفيما عدا التعامل مع القراصنة خارج الإطار القانوني كما فعلت مرة سفينة روسية عمدت إلى إطلاق سراح القراصنة في عرض البحر دون أدوات ملاحية ليُعدوا منذ ذلك الوقت في عداد الموتى، ظل الحل في نظر المجتمع الدولي تقديم القراصنة للمحاكمة في كينيا، والحال أن مقاضاة مجرمين يعتبرون "أعداء للبشرية" يحتم وضع إطار قانوني أكثر متانة. وفي هذا الإطار صادقت الأمم المتحدة على قرار في أبريل الماضي، وهو قرار مجلس الأمن 1918 يدعو جميع البلدان إلى تجريم القرصنة في تشريعاتها المحلية، كما عُهد إلى الأمين العام للأمم المتحدة بمراجعة العملية الفوضوية التي تصاحب محاكمة القراصنة. وكان بان كي مون قد طرح إمكانية تقديم مساعدات للحكومات المحلية لإنشاء محكمة جهوية خاصة بمتابعة القراصنة وتقديمهم للمحاكمة، ومن شأن إحداث هذه المحكمة أن تقسم أعباء وتكاليف الملاحقة القضائية على المجتمع الدولي، كما سيشجع ذلك الحكومات على التعامل بحزم مع القراصنة من خلال توقيع عقوبات سجنية في إطار المحكمة التي تدعمها الأمم المتحدة. وفي هذا السياق، يتعين على الولايات المتحدة الاضطلاع بدورها الريادي في مكافحة القرصنة ودعم المحكمة الخاصة، لا سيما وأنها البلد الأول في العالم الذي يعتمد على خطوط التجارة كما يتوفر على أقوى أسطول بحري منتشر في البحار والمحيطات، وهو ما يحتم عليها أن تكون في مقدمة الجهود العسكرية والقانونية لتحرير البحار من قبضة القراصة، وضمان أمن وسلامة السفن والملاحة البحرية.