منذ أكثر من عشر سنوات وفي خضم المعركة السياسية والفكرية ضد الجماعات الإسلامية الإرهابية التي خاضت في الإرهاب، متمسحة بتفسيرات مشوهة لبعض النصوص الإسلامية، نشرت مقالاً بعنوان "أزمة العقل التقليدي"، حاولت إقامة تقابل بين العقل التقليدي والعقل العصري، وقلت إنه يبرز في المرحلة الراهنة خطاب تقليدي يتبناه مثقفون من اتجاهات فكرية شتى، وهو يبسط رواقه على مختلف جنبات المجتمع العربي. وهذا الخطاب يخوض معركة شرسة مع الخطاب العصري الذي يتبناه مثقفون من مشارب فكرية مغايرة. والسمات الأساسية للخطاب التقليدي أنه يتشبث بالماضي، وهذا الماضي المتخيل يختلف بحسب هوية منتج الخطاب. وهو خطاب يهرب من مواجهة الواقع، ولا يعترف بالتغيرات العالمية، أو على الأقل يحاول التهوين من شأنها، أو يدعو بصورة خطابية للنضال ضدها، دون أن يعرف القوانين التي تحكمها. ومن سماته إلقاء مسؤولية القصور والانحراف على القدر أو الضعف البشري أو على الأعداء. وهو في ذلك عادة ما يتبنى نظرية تآمرية حول التاريخ، وينزع إلى اختلاق عوالم مثالية يحلم دعاته بتطبيقها، بغض النظر عن الواقع. أما الخطاب العصري فهو خطاب عقلاني، يؤمن بالتطبيق الدقيق للمنهج العلمي، وعادة ما يتبنى رؤية نقدية للفكر والمجتمع والعالم. وهو خطاب مفتوح أمام التجارب الإنسانية المتنوعة، يأخذ منها بلا عقد، ويرفض بعضها من موقع الفهم والاقتدار والثقة بالنفس، ولا يخضع لإغراء نظرية المؤامرة، كما يعرف أنه في عالم السياسة ليست هناك عداوات دائمة أو صداقات خالدة، علاوة على أنه ينطلق من أن الحقيقة نسبية وليست مطلقة، وأن السبيل لمعرفتها هو الحوار الفكري والتفاعل الحضاري، ولا يدعو لمقاطعة العالم أو الانفصال عنه، ولا يدعو لاستخدام القوة والعنف، ولا يمارس دعاته الإرهاب المادي أو الفكري. سجلت هذه الأفكار منذ عقد من السنين، ومن ذلك الوقت جرت مياه كثيرة تحت الجسر! فقد استفحلت ظاهرة الإرهاب، وانتشر في طول البلاد الإسلامية وعرضها، وما لبث الإرهاب أن قفز في المجهول حين انطلق ليهاجم مراكز القوة في النظام الأميركي. كما انتشرت في نطاق مقاومة الشعب الفلسطيني للاحتلال ظاهرة تفجير المقاومين لأنفسهم. وما لبث هذا الأسلوب أن انتقل إلى ميادين أخرى ليس فيها أعداء إسرائيليون، بل مواطنون عاديون، مثلما حدث مؤخراً مع تفجير كنيسة القديسين في الإسكندرية. وهكذا نجد أنفسنا اليوم في مجال العلم الاجتماعي المهتم بالعنف والإرهاب، لسنا أمام العقل التقليدي، بل أمام العقل الإرهابي. وبعد تأمل طويل في مسيرة الإرهاب الذي تمارسه الجماعات المتأسلمة، والتي يمكن لتنظيم "القاعدة" أن يكون نموذجها البارز، أدركت أن العقل التقليدي هو الذي يمهد الطريق لنشأة العقل الإرهابي الذي يدفع صاحبه للعنف. وذلك لأن العقل التقليدي ينطلق من رؤية مغلقة للعالم. وفي تقديرنا أن مفهوم رؤية العالم الذي أصبح مفهوماً رئيسياً في التحليل الثقافي، هو مفتاح فهم أسباب الإرهاب الحقيقية. لقد نحينا جانباً في دراساتنا الماضية المنهج الاختزالي الذي يحصر الأسباب في الفقر والقهر السياسي، على أساس أن إرهابيين عديدين ينحدرون من عوائل غنية، بالإضافة إلى أنه ليس كل مواطن عربي يخضع للقهر السياسي يمكن أن يتحول إلى إرهابي! غير أن التفسير يكمن في أن هناك جماعات تتولى غسيل مخ الشباب، وتمدهم برؤية تقليدية متزمتة للعالم. وإذا كان التعريف المعتمد لرؤية العالم أنها النظرة للكون والمجتمع والإنسان، فإن هذه الجماعات لديها نظرياتها وشروحها الدينية التي تنظر للكون والمجتمع والإنسان نظرات خاصة. وربما كانت نظرية "الحاكمية" التي تذهب إلى أن الحاكمية لله وليست للبشر، بالإضافة إلى تكفير المجتمع العربي، والكراهية العميقة للأجانب باعتبارهم يشنون حرباً صليبية ضد دار الإسلام... هي الملامح الرئيسية لرؤية العالم التقليدية المتزمتة، والتي هي المقدمة الضرورية لتشكيل العقل الإرهابي. وحين وصلت إلى هذه النتائج تساءلت: هل فكرة العقل الإرهابي متداولة في إطار العلم الاجتماعي المهتم بدراسات العنف والإرهاب أم لا؟ وحين حاولت التماس الإجابة في شبكة الإنترنت فوجئت بأن مفهوم "العقل الإرهابي" يستخدم بكثرة في الكتابات التي تحاول تأصيل أسباب الإرهاب. وأكثر من ذلك فوجئت بمقالتين إحداهما للفيلسوف الفرنسي الشهير "بودريار" وهو من رواد حركة ما بعد الحداثة، عنوانها "عقل الإرهاب"، والأخرى للكاتب الفرنسي المعروف "آلان مينك" وعنوانها "إرهاب العقل". وساعتها أدركت أنني باستخدام مفهوم "العقل الإرهابي" لا أبتعد عن لغة العلم الاجتماعي المعاصر. وإذا كنا قد أكدنا أن العقل التقليدي هو الممهد للعقل الإرهابي الذي يدفع الشخص لارتكاب الأفعال الإرهابية، فإن هذا العقل التقليدي لا تفهم مكوناته الأساسية بغير ردها إلى أصل واحد هو الأصولية. ونحن لا نستخدم مفهوم الأصولية هنا بالمعنى الإيجابي للكلمة، أي العودة إلى المبادئ الأساسية النقية للدين بعيداً عن هوامش عصور الانحطاط، لكننا نستخدمها بمفهوم الجمود العقائدي والتزمت الفكري. وقد أبرز الكاتب المغربي "علي أومليل" في بحث له بعنوان "حوار الثقافات: العوائق والآفاق"، هذه المعاني السلبية للأصولية. واستطاع من خلال تتبعه التاريخي للمواجهة بين العالمين العربي والأوروبي في بداية النهضة العربية الأولى، أن يبرز تبلور الإدراك العربي بأن وراء تفوق العسكرية الأوروبية تفوقاً في تنظيم الاقتصاد والمجتمع والدولة، وتفوقاً علمياً وتكنولوجياً. وأن وراء كل منظومة التقدم الغربي قيما ومبادئ كالتربية على الحرية والمساواة، وحق الشعب في اختيار حكامه، وحرية التعبير والصحافة، وسيادة القانون والمساواة أمامه. غير أنه إزاء ظاهرة التقدم الغربي تبلور وعي مزدوج تجاه الغرب، فهناك إعجاب بمظاهر تقدمه، لكن هناك أيضاً الغرب الاستعماري مزدوج المعايير. فهو يضمن الحرية لمواطنيه ويحرمها على الشعوب التي يستعبدها. وقد سبق أن عبرنا عن نفس الفكرة في بحث حول "الغرب باعتباره النموذج وباعتباره العقبة". وكان "أومليل" موفقاً حين ربط بين توحش الدولة السلطوية العربية ونزعة تيار الإسلام السياسي لرفض الحداثة، والوقوع في فخ العقل التقليدي بكل رؤاه الرافضة والمتزمتة. ويقول أومليل في شرح هذا الاتجاه إنه ما دامت التنمية هي طريق الحداثة، وما دامت الدولة السلطوية قد فشلت في تحديث المجتمع، فقد كفر الإسلام السياسي بالتنمية والحداثة معاً! والإسلام بالنسبة للفكر الأصولي المتشدد يرفض أي حوار بين الحضارات، والإسلام في هذا الفكر الأصولي ينبغي أن يسود ليس بالدعوة فحسب، وإنما بالجهاد أيضاً. وهكذا تتضح الصلات العضوية بين العقل التقليدي الأصولي والعقل الإرهابي. ولو قرأنا النصوص التي أنتجها الأصوليون المتشددون لأدركنا أن عنف الخطاب لا يعادله عندهم إلا عنف الإرهاب. سجلت هذه الأفكار الأساسية ونشرتها منذ سنوات، ولم أجد بأساً في إعادة صياغتها اليوم بمناسبة تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية، لأن هذا العمل الإرهابي باستهدافه كنيسة للأقباط إنما يحاول تفجير الوحدة الوطنية المصرية وتمزيق نسيج التعايش الإسلامي القبطي.